خطر العولمة الثقافية
كتبه / الشيخ حامد بن عبد الله العلي
(((وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)))
الحمد لله الذي لا إله إلاّ هو ، لا شريك له في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته .. والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء محمد ، وعلى آله وصحابته .. وبعد
فإن الدعوة إلى العولمة الثقافية لا تخرج في حقيقتها عن محاولة لتذويب الثقافات والحضارات وإلغاء الخصوصيات الحضارية لصالح حضارة الغالب .. وعالم المسلمين يُعَد أول المُستَهدَفِين .. ذلك أن الثقافة الإسلامية التي تشكل هوية الأمة وقسمات شخصيتها الحضارية هي في ثوابتها من عطاء معرفة الوحي ، لذلك فالاستهداف يتركز حول عقيدة الأمة الإسلامية ؛ لأن الدين ليس أمراً مفصولاً عن الثقافة
أعمدة الهيمنة الأربعة
ولقد أصبح من الواضح في تحليل السياسة العالمية بصورة عامة منذ تفرد الولايات المتحدة بكونها القوة الكبرى المهيمنة بعد سقوط الاتحاد السوفيتي : أن العولمة ما هي إلا أحد الأعمدة الأربعة التي أوثقت بها دول القلب (الولايات المتحدة وأوروبا) التي تُشَكِّل موقع صناعة القرار العالمي ، ما حولها من العالم (في أسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية وأوروبا الشرقية) والتي غدت لا تعني سوى كونها سوقاً مربحة أو ساحة مصالح لدول القلب أوثقتها بهذه الأعمدة لتجبرها على البقاء تحت هيمنة دول القلب ، تجري في فلكها ؛ لتضمن تحقق السيطرة الكفيلة بضمان تفوق الغرب على الشرق والشمال على الجنوب ، وتدفق المصالح الاستراتيجية من الشرق إلى الغرب ومن الجنوب إلى الشمال
وأما الأعمدة الثلاثة الأخرى فهي :
(1) الشرعية الدولية
حيث تحتكر دول القلب هذه الشرعية المتمثلة في "الأمم المتحدة" ، وتستعملها لإسباغ الشرعية أو نزعها عن أي دولة تحاول التخلص من الوِثَاق ذي الأعمدة الأربعة التي أوثقت به دولُ القلبِ العالمَ ، ولم يعد يهم دول القلب أن تتعسف وتتناقض وتكيل بمكيالين في استعمال أداة "الشرعية الدولية" ، فتُصدر قراراً من مجلس الأمن لعقاب من تريد لأنه أعلن رفضه لقانون الهيمنة الذي فرضته دول القلب على العالم ، بينما تكتفي بموقف المتفرج في حالات أشد خطورة وانتهاكاً لحقوق الإنسان وقيم الأمم المتحدة ، لسبب واضح وهو أن دول القلب لم تشعر بالحاجة إلى تحريك "الشرعية" هنا ؛ لضمان مصالح أو تأديب خارج على قانونها ، قانون الهيمنة والسيطرة
(2) السلاح
وبوسيلة هذا العمود تتحكم دول القلب بالحروب والتوترات العالمية ، وتأجج أو تخمد مناطق الصراع العالمية على وفق مصالحها
(3) الخامات
مثل النفط والقمح ، وبوسيلة هذا العمود تتحكم دول القلب بالتنمية والتطور والتكنولوجيا أيضاً في الدول الواقعة في أحزمة مصالح دول القلب ، وذلك وفق مصالحها وبما يضمن بقاء تفوقها وتدفق المصالح الاستراتيجية إليها
والعولمة تعتمد على محورين أساسين :
المحور الأول : التجارة العالمية
المحور الثاني : الإعلام الذي يحمل الثقافة والفكر
والعولمة التجارية يُقصد بها : ضمان تدفق رؤوس الأموال الغريبة إلى أسواق العالم ، وضمان تدفق المصالح المادية نحو دول القلب ، كما تقدم
والعولمة الإعلامية يُقصد بها : إخضاع العالم لقيم العالم الغربي
الموقف من العولمة الفكرية والثقافية
يمكن تلخيص المواقف تجاه العولمة في أربعة :
الأول : الموقف القابل للعولمة ، الذائب فيها ، المؤيد لها تأييداً مطلقاً
الثاني : الموقف الرافض لها جُملَةً وتفصيلاً
الثالث : الموقف الملفق الذي يحاول التلفيق بين ما تحمله العولمة والإسلام
االرابع : الموقف المتفاعل معها على أساس الانتقائية المشوبة بالحذر
أما الموقف القابل بإطلاق : فهو موقف تابع ، وقد جلب ولا يزال يجلب سلبيات الحضارة الغربية ؛ لأنه موقف قائم على الخلط بين مقومات الحضارة الإنسانية التي هي بناء فكري ينبثق منه منهج للتعامل مع الخالق والحياة والإنسان والكون ، وبين الآلات والتكنولوجيا التي هي منجزات علمية مشتركة بين الناس .. فالأول هي الحضارة ، وهي لا تُستورَد ولا تُشتَرى ولا يمكن نقلها من أمة إلى أمة إلا بإحداث انقلاب جذري استئصالي
وأما الموقف الرافض : فهو موقف خاسر غير واقعي ، وسيؤدي إلى الانكفاء والانعزال فالموت الحضاري
وأما الموقف الملفق ، وهو الموقف الذي يتزعمه بعض من يسمون أنفسهم "الليبراليين" في عالمنا العربي ، والذي يعتبرون أنفسهم معتدلين ، لأن المتطرفين منهم هم أصحاب الموقف المؤيد تأييداً مطلقاً للعولمة ، ويدندن حول هذا الموقف من يسمون أنفسهم "اليسار الإسلامي" أيضاً .. وهاتان الفئتان تضيعان وقت الأمة بممارستهما عملية قص ولزق وبتر لبعض قيم الأمة وعزلها من سياقها المتكامل لإخضاعها للفلسفات المعاصرة ، وما هذا الصنيع إلا تكريس لإلغاء الذات أو تشويهها لصالح الأجنبي
وأما الموقف الرابع القائم على التفاعل الحضاري الناقد والانتقائي الحذر الذي يقوم على الفحص والتدقيق وتقليب الشعارات والتنقيب عن المسميات ، فيكشف ما تحت بريق العولمة من الظلمات كالإباحية ، والمادية النفعية ، والميكافيلية الشريرة ، والاستغلال الرأسمالي للإنسان باسم التحرير ، وفلسفة اللذة والمتعة ، وعبادة الدنيا ، ثم يأخذ ما في العولمة من الصواب والخير بعد التمييز والتفتيش والنقد الموضوعي المنبثق من الثقة بالذات والاعتزاز بالهوية ، ويرفض ما في العولمة من الشر والضلال
الموقف الصواب من العولمة
وهذا الموقف لا شك أنه هو الحق الذي يجب اتباعه ، وأصله في الشريعة الإسلامية قول النبيّ صلى الله عليه وسلم : ((... حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج)) [رواه البخاري من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما] ، وورد في بعض ألفاظه : ((ولكن لا تصدقوهم ، ولا تكذبوهم)) [أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه] .. ووجه الاستدلال به : أنه إذن بالتفاعل الحضاري والتواصل الثقافي مع ما عند أهل الكتاب ، غير أنه صلى الله عليه وسلم أمر برفض ما يعارض القرآن وقبول ما يوافقه والحذر مما لا يُعلَم صدقه من كذبه
وحتى نبرهن على صحة هذا الموقف من العولمة : نقف عند أهم أخطارها الثقافية والفكرية على أمتنا ؛ لتأخذ حذرها ، وتُدرك كيفية التعامل مع وجهة العالم الجديد ، مما يمكنها من إبلاغ رسالتها وإلحاق الرحمة بالعالمين قياماً بدورها في الشهود الحضاري
أهم أخطار العولمة
تعرف العولمة مُطلَقاً بأنها : ظاهرة الانتماء العالمي بمعناه العام ، وهي تعبير مختصر عن مفاهيم عدة ، فهي تشمل الخروج من الأطر المحدودة (الإقليمية والعنصرية والطائفية وغيرها) إلى الانتماء العالمي الأعم
ففي جانبها الاقتصادي : تشمل الانفتاح التجاري ، وإلغاء القيود التجارية ، وتوفير فرص للتبادل التجاري الواسع محكوماً بقواعد السوق فقط بدون وجود إجراءات حمائية حكومية
وفي جانبها الفكري والثقافي : هي الانفتاح الفكري على "الآخر" ، وعدم الانغلاق على الذات ، ورفض التعصب الفكري الذي يدعو لإلغاء "الآخر" لا لشيءٍ سوى أنه مغاير للفكر
وفي جانبها السياسي : هي شيوع تطبيق القانون على الجميع ، ومُراعاة الحقوق السياسية للإنسان
فهي باختصار : الشعور بالانتماء الكبير العالمي بدلاً من الاقتصار على الانتماء المحلي الإقليمي (الديني ، العنصري ، الطائفي)
لكن هذا العرض اللطيف الذي حاول تجميل وجه العولمة ليس سوى محاولة لإخفاء حقيقتها التي تنطوي عليها أهدافها
أهداف العولمة
(1) محاولة سيطرة قيم وعادات وثقافات العالم الغربي على بقية دول العالم خاصةً النامي منها وإذابة خصائصها
(2) تهميش تميز دين الإسلام ، وإزالة الحدود الفاصلة بينه وبين غيره من الأديان الباطلة ؛ تمهيداً لشن هجوم على مبادئه وتعاليمه وصد الناس عن الإيمان به
(3) فرض مفهوم نهاية التاريخ بانتصار قيم العالم الرأسمالي الغربي انتصاراً نهائياً ، والتسليم بلزوم تسليم القيادة البشرية إلى ثقافة الغرب إلى الأبد
(4) إبقاء حال الهيمنة الغربية بأعمدتها المذكورة آنفاً أطول فترة ممكنة تحت ستار مصطلح العولمة
هوية بلا هوية
وباختصار : العولمة هي في الحقيقة "هوية بلا هوية"
وهدفها باختصار : تفريغ ثقافة "الغير" من محتواها ، واستدراجها إلى الثقافة الغربية بحيلة وشعار مزيف يُطلق عليه اسم "العولمة" ؛ لأنه لو قيل للعالم : "الأمركة" لنفر كثير من الناس من هذه الدعوى ، فاستُبدِل باسم "العولمة"
فكأنهم يقولون : ((تعالوا لنصير جميعاً عالماً واحداً ، وننصهر في ثقافةٍ واحدة ، ونحتكم إلى قوانين عالمية واحدة ، وتسيرنا ثقافة وعادات واحدة أو متقاربة ؛ حتى نتعايش ونتفاهم ولا تقع بيننا الحروب ....)) إلخ .. حتى إذا وقع المدعوون في هذا الفخ : اكتشفوا أنهم في قفص "الأمركة" والعالم الغربي ، ثم وجدوا اللافتة التي تحمل اسم "العولمة" تساقطت حروفها واختفت كهيئة الحِبر السري ، وظهر من تحتها اسم جديد وشعار جديد هو "التغريب" ، واكتشف المخدوعون أن حضاراتهم سُلِبَت من حيث لا يشعرون ، وثقافتهم ذابت من حيث لا يعلمون ، وهويتهم طُمِسَت بالتدريج من حيث لا يدرون
إذاً : العولمة في النهاية هي نتيجة انهيار نظام عالمي كان يقوم على "القطبية الثنائية" بانهيار أحد قطبيه (وهو الاتحاد السوفيتي) وسيطرة قطب واحد أخذ يُهَيمن بانتهاء الحرب الباردة على العالم سياسياً وعسكرياً .. هذا القطب الواحد (كما أشرنا في مطلع هذه المقالة) يستخدم آلات كثيرة خداعة للسيطرة الفكرية والثقافية على العالم تحت شعار كبير اسمه "العولمة" .. وقد بدأت تظهر آثار سياسة هيمنة وسيطرة القطب الواحد (دول القلب) بملامح حملة تغريب الإنسان في أفكاره ، ومنهاج تعليمه ، وفي طراز حياته ، وفي طعامه وشرابه ، حتى في صورته الظاهرية وشكله الخارجي التي أصبحت ظاهرة منتشرة في شباب اليوم الذي يحمل جراثيم التغريب ، باتت هذه القبعات الجديدة تذكرنا بالقبعة التي فرضها "أتاتورك" على الشعب التركي عندما أعلن أول خطوات الانهزام أمام التغريب عند بدء عصر الانحطاط أول هذا القرن
المخاوف من العولمة على العالم الإسلامي
أولاً : تهديد العولمة لأصل العقيدة الإسلامية
لعل من أخطر ما تحمله العولمة هو تهديدها لأصل العقيدة الإسلامية ؛ وذلك لأن العولمة تشتمل على الدعوة إلى وحدة الأديان !! وهي دعوة تنقض عقيدة الإسلام من أساسها ، وتهدمها من أصلها ؛ لأن دين الإسلام قائم على حقيقة أنه الرسالة الخاتمة من الله تعالى للبشرية ، الناسخة لكل الأديان السابقة التي نزلت من السماء ثم أصابها التحريف والتغيير ودخل على أتباعها الانحراف العقائدي
والعولمة تحمل في طياتها اعتبار الأديان كلها سواء ، وأن الحق في هذه الدائرة نسبي بحسب اعتقاد كُل أمة .. ولا يصحّ في العولمة الفكرية والثقافية اعتبار دين الإسلام هو الحق الذي ليس بعده إلا الضلال ، ولهذا تشجع "العولمة" ما يُسمى "حوار الأديان" ، لا على أساس دعوة الأديان الأخرى إلى الإسلام ، بل على أساس إزالة التمييز بين الإسلام وغيره بالحوار الذي يتوقعون أنه سيحمل المسلمين على التنازل عن اعتزازهم بدينهم واعتقادهم ببطلان غيره ، وبذلك يزول التعصب وتتقارب الأديان !!
وتتجلى خطورة هذه الدعوة في كونها تنقض عقد الإسلام من أصله ؛ فعقد الإسلام لا يستقيم إلا مع اعتقاد بطلان كل الأديان الأخرى ، والإيمان لا يعد صحيحاً إلا على أساس قوله تعالى : (((قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ))) [الكافرون : 1-2] ، أي باعتقاد كُفر كُل من يعبد غير الله تعالى أو يزعم أنه يعبد الله تعالى بغير دين الإسلام وشريعة محمد صلى الله عليه وسلم ، كما قال تعالى : (((وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ))) [آل عمران : 85] ، وقوله : (((إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلامُ))) [آل عمران : 19]
كما يُعَبِّر عن هذه الحقيقة علماء الإسلام بأن : ((من نواقض الإسلام : من لم يُكَفِّر المشركين والكفار أو شَكَّ في كُفرهم أو صَحَّحَ دينهم)) .. والكُفار هم أتباع كل دين غير دين الإسلام بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم .. وقولهم : ((إن من نواقض الإسلام أيضاً : من اعتقد جواز الخروج عن شريعة رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم))
ثانياً : تهديد العولمة للمفاهيم الأساسية في العقيدة الإسلامية
كما أن العولمة تسعى لإعادة تشكيل المفاهيم الأساسية عن الكون والإنسان والحياة عند المسلمين ، والاستعاضة عنها بالمفاهيم التي يروج لها الغرب ثقافياً وفكرياً
فالكون في نظر العولمة الثقافية والفكرية لم يُخلَق تسخيراً للإنسان ليكون ميدان امتحان للناس ولابتلائهم أيهم أحسن عملاً !! والإنسان لم يُخلَق لهدف عبادة الله تعالى !! والحياة ليست صراعاً ابتدأ منذ خلق الإنسان بين الحق الذي يمثله الرُسُل والأنبياء وأتباعهم الذين يدعون إلى سبيل الله تعالى بالوحي وبين الباطل الذي يدعو إليه الشيطان ، والشيطان ليس هو الذي يقود في الحقيقة معركة الباطل ويُجَنِّد لها جنوده من الرجال والنساء كما قال سبحانه وتعالى : (((وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ))) [الإسراء : 64] ، وقال سبحانه وتعالى : (((أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً))) [مريم : 83] ، وقال الله تعالى : (((الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً))) [النساء : 76] ، وقال سبحانه : (((كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ))) [الحشر : 16]
هذه المفاهيم الأساسية للعقيدة الإسلامية ليست في نظر العولمة الفكرية والثقافية سوى خرافة
كما أن الموقف من أمم الأرض في نظر العولمة الفكرية والثقافية ليسَ على أساس المفهوم القرآني القائم على التقسيم العقائدي إلى :
(1) ((المسلمون تتكافأ دماؤهم ، ويسعى بذمتهم أدناهم ، وهم يَدٌ على مَن سواهم)) [أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما] ، وأنه تجب موالاة المسلم لأخيه المسلم ونصرته ، وأن يكونوا أمة واحدة تجمعها العقيدة ولا تفرقها أي وشيجة أخرى
(2) وإلى كُفَّارٍ تجري عليهم الأحكام الشرعية بحسب علاقتهم بالمسلمين
هذه المفاهيم القرآنية الإسلامية الأساسية كُلها تنقضها العولمة الفكرية والثقافية من أصلها ، وتهدمها من أساسها ؛ فالكون في نظر العولمة ما هو إلا ميدان تنافس على المصالح الدنيوية ، والإنسان حيوان دائب البحث عن ملذاته وشهواته ومنافعه ، وليست الحياة سوى فرصة قصيرة لا ينبغي أن تضيع في غير اللذة والشهرة والجنس والمال والثروة والجمال ، وليس وراءها شيء آخر ، وما هي إلا سباق بين الناس في هذا الميدان لا ينقصه سوى تنظيم هذه اللعبة لئلا تفسد على الجميع ، ولا يصحّ التفريق بين الناس على أساس عقائدهم ؛ فهم أمة واحدة في الإنسانية تجري عليهم أحكام واحدة لا يجوز بحال أن تتفاوت هذه الأحكام بسبب الدين أو العقيدة
إن خطورة العولمة الفكرية والثقافية تكمن في أنها تعمل على إعادة تشكيل المفاهيم الأساسية التي تشكل أصول عقيدة المسلم ، بل تنقضها ، وتستعيض عنها بمفاهيم غربية كافرة ملحدة لا تؤمن بوجوب عبادة الله واتباع الوحي والاستعداد للآخرة
ثالثاً : تهديد العولمة لمبادئ الشريعة الإسلامية
كما أن العولمة تحمل في طياتها نقضاً لأحكام الشريعة الإسلامية ، بفرضها مبادئ تخالف الشريعة
تسويق العولمة لوهم المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة
ومن الأمثلة الواضحة على هذا قضية : فرض مفهوم المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة ، فهذا المفهوم مَنصُوصٌ عليه في الميثاق العالمي لحقوق الإنسان ، ومقتضاه : إزالة جميع الفوارق في الأحكام والحقوق والواجبات بين الرجل والمرأة ، وهو الأمر الذي يتناقض مع الشريعة الإسلامية التي تقوم على أساس الفرق الفطري والخلقي بين الرجل والمرأة ، ذلك الفرق الذي يقتضي اختلافاً في بعض الأحكام والحقوق والواجبات بحسب اختلاف الاستعدادات الفطرية والمؤهلات التكوينية بينهما ، ولهذا نجد الشريعة الإسلامية تقرر أن مبدأ عدم المساواة المطلقة بين الرجال والنساء أمرٌ قطعي الثبوت والدلالة ، ولا خلافَ فيه ، ولا مجالَ فيه للاجتهاد .. ونفي المساواة المطلقة لا يقتضي نفي مُطلق المساواة كما لا يخفى
الشريعة الإسلامية تقوم على أساس الفروق بين الجنسين
على هذا قام الفقه الإسلامي ، ودلت على ذلك نصوص الكتاب والسنة وإجماع العلماء .. وبدءاً من باب الطهارة إلى باب الشهادات (آخر أبواب الفقه الإسلامي) : جد المرأة والرجل يجتمعان في أحكامٍ ويختلفان في أحكامٍ أخرى .. ومن صور الاختلافات : ما جاء في أحكام الحيض والنفاس ، وأحكام لباس المرأة في الصلاة ، وعدم وجوب الجمعة والجماعة عليها ، وكون صلاتها في بيتها أفضل ، وأنها ممنوعة من الأذان بإجماع العلماء ، ومن إمامة الرجال في الصلاة وخطبة الجمعة لهم بإجماعِ العلماء ، وأنها تُصَفِّق لتنبيه الإمام إذا سها ولا تُسَبِّح كالرجال ، وأن صفوف النساء في الصلاة وراء صفوف الرجال ، ولا يجوز تقدمهن ولا اختلاطهن بصفوف الرجال بإجماعِ الفقهاء ، و((خير صفوف النساء آخرها وشرها أولها)) [أخرجه مسلم] بعكس الرجال ، ومن الأمثلة أيضاً على الاختلاف : إحرامها للحج والعمرة في بعض الأحكام ، وفي عدم وجوب الجهاد عليها ، وفي اختلاف أحكام الميراث والنفقة ، وجعل الطلاق بيد الرجل في الأصل ، وتقديمها في الحضانة في الجُملة ، وفي تحريم الخلوة بها ، وفي تحريم التبرج ، وعدم قبول شهادتها في الحدود والدماء .. وهذا كُله على سبيل المثال ، وإلا فثمة أحكام كثيرة غير هذه قد أجمع العلماء على أن المرأة لا تتساوى فيها والرجل ، كما دَلَّ على ذلك صريح قوله سبحانه وتعالى : (((وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى))) [آل عمران : 36]
وأما العولمة : فإنها كما ترفض التمييز بين الناس على أساس الإيمان والكفر ، ترفض أيضاً التمييز بين الرجل والمرأة ، مناقضة لأحكام الشريعة الإسلامية التي بنيت على أساس التقسيم الوظيفي بين الرجل والمرأة في المجتمع ، وأن دور كُلٍّ منهُما مُكَمِّل لدور الآخر في النظام الاجتماعي الإسلامي ، بناءً على أساس أن التكوين الخلقي للمرأة يختلف عن الرجل ، وأن مؤهلاتها واستعدادتها الفطرية تقتضي توليها دوراً مَا في المجتمع يختلف عن دور الرجل ، وهو الدور الأسري
إن الحقائق العلمية لتؤكد الفرق البيولوجي الأساس بين الجنسين ، ولا بأس أن أستشهد هُنا بما أورده مؤلفا كتاب "جنس الدماغ" (Brain Sex) : الدكتور في علم الوراثة "آن موير" و"ديفيد جيسيل" ، وهو في الحقيقة مُؤَلَّف اشترك فيه أكثر من 25 اختصاصي على رأسهم رائدة علم الفروق الدكتورة "كوراين هت" ، لأنهما نقلا نتيجة إجابات كُل هؤلاء الأخصائيين في الكتاب ، يقول مؤلفا الكتاب في المقدمة : ((تمت صياغة المادة الأساسية لهذا الكتاب من أبحاث قام بها علماء كثيرون من جميع أنحاء العالم))
ثم قالا في وصفٍ دقيقٍ للحقيقة التي توصلا إليها بعد أبحاث مضنية : ((الرجال مُختلفون عن النساء ، وهم لا يتساوون إلا في عضويتهم المشتركة في الجنس البشري ، والادعاء بأنهم متماثلون في القدرات والمهارات والسلوك تعني بأننا نقوم ببناء مجتمع يرتكز على كذبة بيولوجية وعلمية ؛ فالجنسان مختلفان لأن أدمغتهم تختلف عن بعضهما ، فالدماغ وهو العضو الذي يضطلع بالمهام الإرادية والعاطفية في الحياة قد تم تركيبه بصورة مُختلفة عند كل منهما ، والذي ينتج عنه في النهاية اختلاف في المفاهيم والأولويات والسلوك))
وإنما أطلتُ في هذا المثال لأن حُمَّى مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة أضحت موجة آخذة في الصعود في الخليج ، مُتسَاوِقَة مع تنامي الدعوة إلى العولمة الثقافية والفكرية !! ولأنها قضية بالغة الخطورة ؛ لأن الغرب يسعى من خلالها إلى إعادة تشكيل النظام الاجتماعي في المجتمعات الخليجية وفقاً للمفاهيم الغربية
إنه مثالٌ واضح لِمَا تفرضه العولمة من مبادئ وتشريعات تناقض الشريعة الإسلامية ومبادئها
رابعاً : تهديد العولمة للأخلاق الإسلامية
كما أن العولمة تهدد النظام الأخلاقي الإسلامي ، فمن خلال العولمة يُرَوَّج للشذوذ الجنسي ، ويحاول الغرب استصدار قوانين لحماية الشذوذ الجنسي في العالم .. ومن أحدث محاولات العولمة : محاولة فرض مُصطلح جديد يُطلَق عليه (Gender) بدل كلمة (Sex) ، يقول الدكتور "محمد الركن" في "مجلة المستقبل الإسلامية" : ((ومن المسائل الجديدة المُستحدثة التي تُحاول بعض المنظمات والحكومات الغربية فرضها وإلزام شعوب العالم الأخرى بوجهة نظرهم فيها : مسألة تعريف الجنس والأسرة ، ومما حداني للحديث حول هذا الموضوع ما شاهدته في المستندات الرسمية ، فقد تمت ترجمة الجنس الغربي إلى مصطلح (Gender) باللغة الإنجليزية ، وهي تنم عن عدم إلمام بما يسعى إليه الغربيون في فرض ثقافتهم على الآخرين ؛ فلفظة "الجندر" لا تتطابق تماماً مع لفظة (Sex) ، بل إن لها أبعاداً خطيرة قلما نتنبه إليها .. والموسوعة البريطانية تُعَرِّف "الجندر" بأنه : ((تَقَبُّل المرء لذاته ، وتعريفه لنفسه كشيءٍ متميز عن جنسه البيولوجي الحقيقي)) !! فهناك مِن الأشخاص مَن يرون أنه لا صِلة بين الجنس و"الجندر" ؛ إذ أن ملامح الإنسان البيولوجية الخارجية الجنسية مُختلفة عن الإحساس الشخصي الداخلي لذاته أو "للجندر" ، بعبارة أخرى أكثر تبسيطاً : فإن "الجندر" بعبارتهم تنصرف إلى غير الذكر والأنثى كجنسين فقط ، ونحن لا نعرف ولا نقر في ديننا وثقافتنا إلا بهما ، فالجندر تشمل الشاذين جنسياً من سحاقيات ولواطيين ومتحولي الجنس ؛ إذ أنها ترتبط بتعريف المرء لذاته وهويته وليس بجنسه البيولوجي .. ومن هنا تأتي خطورة المسألة ، ولهذا نرى في المؤتمرات الدولية تسابقاً محموماً من المنظومات الغربية وبعض الحكومات الغربية ، وخصوصاً الأوربية لفرض لفظ (Gender) بدل لفظ (Sex) التي تنصرف إلى الذكر والأنثى فقط ، وذلك عند الحديث عن حقوق الإنسان أو محاربة التمييز ضد الإنسان أو تجريم أفعال ترتكب ضد الإنسان))
خاتمة
وبعد هذا العرض لمخاطر العولمة : لا يبقى مجال للشك أن الموقف الواجب تجاه العولمة الثقافية والفكرية هو التفاعل الحضاري والتعامل الثقافي الانتقائي بحذر ؛ حِفَاظاً على عقيدة الأمة وهويتها وأخلاقها من عبث العولمة الفكرية والثقافية .. ولا يتم ذلك إلا بإحياء مشروع نهضوي ثقافي شامل يُعيد للأمة ثقتها بثقافتها واعتزازها بتاريخها وفخرها بهويتها ، على أساس الالتفاف حول الإسلام النقي الخالص من شوائب الموروث المتخلف ، بفهمٍ صحيحٍ يضع الثوابت والمتغيرات في مواضعها الصحيحة ، ويوجه الاجتهاد الشرعي العصري توجيهاً سليماً جامعاً بين الأصالة والأسس السلفية ، والاستفادة من المُعَاصَرة النافعة ، وسطاً بين الغلو والإجحاف .. ذلك أن الموقف الرافض المنكفئ العاجز عن التعامل مع حقبة العولمة يحمل من المخاطر على الأمة المسلمة وطمس هويتها وتوهين قيمها وعزلها عن الواقع العالمي الشيء الكثير ، لذلك لابد من التفكير بامتلاك الوسائل القادرة على حماية الأمة ، والإفادة من وسائل العولمة وطروحاتها لتقديم البديل الإسلامي على المستوى العالمي
كما لابد من تفعيل كُل جهود الوحدة التي تقرب الأمة (حكومات وشعوباً) من بعضها ، وتقرب الحُكَّام من الشعوب والشعوب من الحُكَّام ، وتصلح بين السياسة والثقافة ، والحُكَّام والعلماء ، وتجمع بين الكتاب والميزان والحديد ، لتعود هذه الأمة إلى مجدها من جديد ، حيث تتمكن من حشد قواها التي تمكنها من استئناف دورها في إلحاق الرحمة بالعالمين
والله أعلم ، وصلى الله على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين