المحرر موضوع: المشروع العَلماني والمشروع الإسلامي.. قراءة نقدية.  (زيارة 14411 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

تمارا

  • زائر
المشروع العَلماني والمشروع الاسلامي

قراءة نقدية


الكاتب: الأستاذ حاتم.
في حوار ثنائي مع أحد العلمانيين العرب، سأنقل فقط ما كتبه الأستاذ الفاضل حاتم.



"المشروع العلماني" و"المشروع الإسلامي" اصطلاحان شائعان ومتداولان في الحقل السياسي العربي الإسلامي المعاصر، يتجاذبان علاقة صراعية وخلافية بوصفهما ضدان متنافسان ومتصارعان.

لكن الناظر في النقاش الدائر سيلاحظ أنه قلما ينضبط لأصول ومستلزمات الحوار المعرفي والعلمي ، وهذا أمر غير مستغرب و لا ينبغي أن يثير الاندهاش ، لأن النقاش السائد في بلداننا العربية اليوم حوار سياسي أكثر منه حوارا معرفيا، ولذا فالأطراف المتحاورة يحكمها منطق السجال والانتصار للذات لا منطق الحوار والمعالجة المعرفية المتزنة.

بيد أن حوارنا هنا في المنتدى يبتعد عن جو الصراع السياسي وحساباته الضيقة، لذا فنقاشنا هنا مهيأ أكثر لأن يؤسس لحوار معرفي.

في هذه السطور سأسعى إلى معالجة المسألة باعتماد رؤية نقدية للمشروعين معا.

صحيح أنا رافض للعلمانية ومؤمن بصلاحية المنهج الإسلامي في تنظيم الفكر وتوجيه السلوك ونظم علاقات الاجتماع، ومن ثم فأنا لست باحثا محايدا أعالج القضية بدون مسبقات أو تموضعات فكرية ، فلست أتعاطى مع الظاهرة الإسلامية ولا مع المشروع العلماني كما يتعاطى الفيزيائي مع المادة الصماء على نحو ينفصل فيه الذاتي بالموضوعي ، بل أنا كائن بشري ينتمي إلى هذا العالم العربي ومهموم بإشكالاته ومنخرط في التعاطي معها، ومن ثم فالزعم بفصل الذات عن الموضوع في مثل هذا السياق هو مجرد زعم ساذج هو في النهاية لا يدرك ذاته ولا موضوعه.

قلت إنني أرفض المشروع العلماني ومؤمن بصلاحية المنهج الإسلامي، لكنني أضيف أنني مع هذا الرفض والقبول لدي وجهات نظر نقدية للمشروعين معا.

ولنبدأ بتحديد المشكلة المراد علاجها، قبل تناول المشروعين بالتحليل والبحث.

..
« آخر تحرير: 2009-11-12, 20:55:03 بواسطة تمرة »

تمارا

  • زائر
تشخيص المشكلة:

ليست المشكلة التي يعاني منها مجتمعنا مشكلة استبداد سياسي فحسب ، بل ثمة نسق مجتمعي وثقافي بأكمله غارق في إشكالات عديدة خانقة: فساد إدراي، واقتصادي، وأخلاقي، واجتماعي، فضلا عن التخلف العلمي...
 
إنها بإختصار أزمة وعي ومجتمع، لا يشكل الاستبداد السياسي إلا جزء منها وأحيانا مظهرا من مظاهرها أو نتاجا من نواتجها العديدة.

فما الحل لهذه الأزمة ؟

موضوع حوارنا هذا هو اختبار المشروعين العلماني والاسلامي وبحث مدى قدرتيهما على معالجة أزمة واقعنا المجتمعي المعاصر.

فلنتناول كل مشروع على حدا:

..

تمارا

  • زائر
1- المشروع العلماني :

ثمة التباس في فكرنا المعاصر ونقاش حول طريقة لفظ العلمانية ونطقها ، هل بكسر العين فتكون من ثم العلمانية مشتقة من العلم SCIENCE ، أم بفتح العين فتكون مشتقة من "العالم" Monde .

فما هو الصواب ؟

هل ينبغي أن تنطق بالفتح أم بالكسر؟

لكن هل تستحق طريقة نطق اللفظ أن تستوقفنا لنصوغ في شأنها مبحثا ؟

لا بالتأكيد ، لكن لو كان هذا الأمر ينحصر في مجرد تبديل لكيفية نطق لفظ العلمانية لكان الأمر هينا ، وما كان ليستحق التفكير والبحث.
بيد أنه يتعدى مثل هذا المطلب البسيط، حيث يكشف لنا هذا الخلاف في نطق اللفظ عن إرادة مؤدلجة وخطأ في فهم الظاهرة العلمانية ابتداء، كما أن تصويب لفظها مدخل إلى فهم أبعاد المشروع العلماني.

كيف ذلك ؟
معلوم أن أي باحث مطلع يعرف أن العلمانية ليست بالكسر بل بالفتح ، لأنها مشتقة من العالم ( الدنيوي ) في مقابل الديني والماورائي، فليس صائبا اقتران العلمانية بالعلم ، ومن يعدونها مقترنة به ويلفظونها بالكسر هم يناقضون مدلولها الاشتقاقي الأصلي.

بل أزيد وأضيف إن العلمانية في أصولها اللغوية الأوربية لا تحيل إلى العلم بل تحيل إلى الجهل !!

قد يبدو هذا الكلام مثيرا لاستغراب البعض لكن لو رجعوا إلى المرجعية الاشتقاقية للفظ سيلاحظون أن لفظ Laicus اللاتيني - الذي اشتق منه لفظ العلمانية-كان يطلق في تقابل دلالي مع لفظ Clerc الذي يعني رجل الدين ؛ ولهذا كان لفظ Laicus ( أي العلماني) يعني في القرون الوسطى الرجل غير المتعلم أو العامي الجاهل، وذلك في مقابل رجل الدين الذي كان نموذج المتعلم والعارف. ومن ثم فتحويل لفظ العلمانية ليحيل إلى دلالة العلم هو تضاد ومناقضة للأصل الاشتقاقي الدلالي للفظ.

وتأسيسا على ما سبق يجب أن نحسم في شأن كيفية نطق الكلمة، فهي إذن بفتح العين لا بكسرها.

ولا مجال لإخفاء هذه العلاقة الاشتقاقية والدلالية المؤكدة بالقول بأن الدين في التجربة التاريخية الغربية وقف في صراع وخلاف مع العلم خلال القرون الوسطى وبداية عصر النهضة، الأمر الذي يسوغ جعل العلمانية تحيل على العلم في مقابل الدين الذي يحيل على النص كمرجعية.
لأن مثل هذه التحولات التاريخية لا يمكن أن تلغي الأصل الاشتقاقي للفظ، هذا فضلا عن أن العلم والمعرفة لا يمكن أن نجعل وجودهما محصورا خارج الحقل الديني.

ثم إن العلمانية في دلالتها الاصطلاحية ليست نظرية علمية بل نزوع ايديلوجي دنيوي يقابل الديني ويحاول نفيه.

فهي استبعاد للعلاقة بين العالم المادي وما وراءه ومن ثم فالعلمانية هي بفتح العين لا بكسرها لإحالتها على العالم لا على العلم، فنطقها بالكسر يؤدي إلى اختزالية قاصرة لمفهومها، بينما هي من حيث بعدها الدلالي مرجعية فلسفية تقصر اهتمامها بالعالم وتستبعد ما وراءه ، ولذا فنطقها بالفتح هو الصائب؛ لأنه يطابق أصلها الاشتقاقي فضلا عن أنه يناغم بعدها الفلسفي.

والواقع أن هذا النطق الصحيح للفظ هو ما يقول به بعض العلمانيين أنفسهم ، فالأستاذ غريغوار حداد يكتب في العدد التاسع والثلاثين من مجلة "مواقف" في مقالته "المسيحية والعلمانية":
"العلمانية ( بفتح العين ) متفرعة من كلمة عالم ... وكلمة أعطت أولا عالمانية التي اختصرت فيما بعد بكلمة علمانية."

وفي هذا السياق يذهب أيضا عادل ظاهر في كتابه "الأسس الفلسفية للعلمانية" حيث يقول:
"ما زال شائعا بين عدد كبير من مثقفينا ، أن الاسم الذي اشتهرت به العلمانية ينبغي أن يلفظ بكسر حرف العين ، مما أوحى بنسبتها إلى العلم. إن هذا خطأ ينبغي تصحيحه، إذ أن لفظة "علمانية" مشتقة من عالم "وليس من "علم"."

لكن رغم هذا فقد شاع، ولا يزال، نطقها بالكسر سواء عند العلمانيين أو عند بعض الكتاب المناهضين لها ، الذين يصوغون بعض المقالات والكتيبات السطحية سواء في مستوى فهمها أو مستوى نقدها!!

وهنا يطرح السؤال: ما سبب هذا الشيوع لهذا الخطأ الواضح؟
إن سبب ذلك قد يكون راجعا إلى الجهل بها، لكن ثمة سبب آخر وهو القصد الإيديولوجي.

وإذا استبعدنا مسألة الجهل فلابد أن نتوقف ولو لحظة عند هذه الإرادة الإيديولوجية المسبقة التي تحرص على نطق لفظ العلمانية بالكسر بقصد إحالتها إلى العلم وإلباسها لبوسه الجذاب. حيث أن هذا يؤكد حرصا على احتكار صفة العلمية.

وهذا ما يذكرنا بذلك التسابق الذي شاع خلال القرن التاسع ومنتصف ق20 بين التيارات الفلسفية حيث كانت تتنافس لوصف ذاتها بصفة "العلمية" .

فمعلوم أن الماركسية كانت تطرح منهجها الجدلي بوصفها المنهج العلمي!
وتقدم مذهبها الاشتراكي بوصفه "الاشتراكية العلمية" في مقابل الأنماط المذهبية الاشتراكية الأخرى التي كانت تنعتها إما ب"الطوباوية" أو "الساذجة" أو غير هذا وذاك من توصيفات قدحية!!

كما نتذكر الوضعية المنطقية التي حرصت خلال ق 20 على أن تدفع بنفسها إلى واجهة النقاش الفلسفي بوصفها الفلسفة العلمية الحقة.

من هنا يظهر أن "العلم" نعت قيمي غالبا ما تتجه مذاهب التفكير إلى التمسح به وارتداء لباسه قصد تجميل نفسها. وهذا ما يسعى إليه بعض دعاة العلمانية العرب بحرصهم على مناقضة الأصل الاشتقاقي للفظ ومخالفة منحاه الدلالي، فيتكلمون عن العلمانية بكسر العين من أجل الإيحاء بعلاقتها بالعلم!!

لكن الأخطاء التي تلتبس بالنقاش الدائر اليوم في واقعنا الثقافي العربي لا تقتصر على كيفية نطق الكلمة فحسب، بل تتعداه إلى فهم مدلولها أيضا.

الأمر الذي يستوجب علينا أن نستفهم : ما معنى العلمانية ؟ وما سبب التباس دلالتها ؟


يتبع.. إن شاء الله.

تمارا

  • زائر
في معنى العلمانية:

نلاحظ في فكرنا العربي المعاصر قصورا في تحديد مدلول العلمانية، يتمثل في سيادة رؤية اختزالية تحصر دلالتها ومفعولها في الشأن السياسي فقط ، فتعرفها بكونها "فصل الدين عن السياسة" !! وبذلك تقدم العلمانية بوصفها معالجة تقوم على فك ارتباط الدين بالشأن السياسي.

وتتأسس هذه الدلالة على فكرة شائعة ومتداولة في الفكر العربي، وكذا في الفكر الغربي ، مؤداها أن هناك نوعين من العلمانية :
"علمانية جزئية" عادة ما يتم تقديم مثالها في النموذج الليبرالي الرأسمالي الغربي الذي حيد الدين وقصر دوره ووظيفته على الناحية النفسية والتعبدية ، ولم ينف وجود شرعية تداوله داخل مجاله التعبدي ؛

فيما تقدم "العلمانية الكلية" في التطبيق الذي تجسد في النموذج السوفيتي ، وما انتظم في فلكه من دول اشتراكية اتخذت الإلحاد إيديولوجية ، معلنة بذلك نفي الدين وليس مجرد فصله سياسيا عن الدولة وتحييده بين جدران المعبد!

بيد أن هذا التقسيم لا يعبر عن حقيقة العلمنة ومفعولها، بل لعل ملاحظة د. المسيري في مقارنته بين النظام السوفيتي السابق والنظام الأمريكي لها مصداقيتها، حيث يعتقد أن النموذج الأمريكي في طبيعته كان أكثر علمانية من النموذج السوفييتي رغم الفكرة الإلحادية التي اتخذتها الدولة السوفييتية إيديولوجية رسمية لها؛ لأن الحياة الغربية الأمريكية في قيمها كانت أكثر امتثالا للعلمانية من النموذج السوفيتي.

لكن إذا كنا نعتقد بخطأ التعريف الشائع للعلمانية القائل بكونها "فصلا للدين عن السياسة" فما هو التعريف الصائب الذي ينبغي اعتماده ؟؟
ما هي دلالة العلمانية وما هي حقيقتها ؟


ليست العلمانية مجرد فصل للدين عن المؤسسات السياسية فهذا التصور يخطئ في فهم هذه الظاهرة الثقافية والمجتمعية التي شهدها التاريخ الأوربي الحديث، ولا يدرك أبعادها العميقة على مستوى الوعي ونظم الاجتماع ، فهذا الفصل هو كما يقول د. عبد الوهاب المسيري مجرد شكل ظاهر، أو هو مجرد نتاج للرؤية الفلسفية العلمانية كما ينتهي إلى ذلك أيضا الباحث العلماني عادل ظاهر في كتابه "الأسس الفلسفية للعلمانية".
ومما يجدر ذكره هنا أن هذين الباحثين على الرغم من تباينهما وتناقض مقصدها ( حيث أن الأول يرفض العلمانية ، والثاني ينافح عنها ) ينتهيان إلى الموقف ذاته ، أي تخطئة من يختزل العلمانية في الفصل السياسي.

ومن الملحوظ أن غالبية دعاة العلمانية في عالمنا العربي الإسلامي يقتصرون على تقديم مشروعهم بكونه مجرد فصل للدين عن السياسة، بيد أن السؤال الذي يحرص العلماني العربي على عدم طرحه صراحة هو:
هل بالفعل هذه هي العلمانية ؟ أم أنها بوصفها فصلا بين السياسي والديني تستلزم ابتداء وجود عقيدة علمانية شاملة ؟

بالنسبة للفصل بين الممارسة السياسية عن المؤسسة الدينية فهذا أمر ملحوظ في مختلف المجتمعات المركبة، لأنه ليس هناك تماه تام بين الدين والسياسة. ودليله على ذلك أنه لو استثنينا المجتمعات البدائية ، التي هي وحدها الموغلة في البساطة والاختزالية للسلط الرمزية والمعنوية والفعلية ، فإن المجتمعات المركبة نوعا ما تعرف تمايزا بين السلطات أو المجالات المختلفة. ومن ثم فلا معنى لدعوة الفصل واعتبار هذه الدعوة هي حقيقة العلمانية، فالعلمانية ذات بعد أعمق وأخطر ، وهو استبعاد الدين بوصفه مرجعية.

لهذا أقول إن التعريف الذي يحدد العلمانية بكونها فصلا للسياسي عن الديني هو تعريف سطحي لا يدرك حقيقة البعد الفلسفي لما يريد تعريفه وتحديده ، ولا يدرك أن هذا الفصل – بمدلوله العلماني الحق – لا يمكن أن يتم إلا بوجود رؤية للعالم أي إيديولوجية وتصور عقدي علماني . وهذا البعد هو ما يدركه بعض العلمانيين العرب، وان لم يجدوا الشجاعة لإعلانه صراحة.

إن العلمانية في مدلولها الحقيقي هي استبعاد للدين كمرجعية للتفكير والأخلاق والسلوك الحياتي. وهذا الاستبعاد هو ما جسدته الحضارة الغربية فانتهت إلى إحلال العقل الأداتي محل الوحي والدين، وهذا هو سبب انزلاق الحضارة الغربية إلى أزمة المعنى والقلق ، وانهيار القيم ، وذلك هو سبب رفضنا لها ولمشروعها العلماني الذي يراد استنساخه في واقعنا.

واستبعاد الدين من الحياة في قيمها الأخلاقية والمعرفية وليس فقط السياسية هو ما يؤكده أحد تعريفات العلمانية في معجم أكسفورد حيث نقرأ:
"العلمانية مفهوم يرى ضرورة أن تقوم الأخلاق والتعليم علــى أساس غير ديني"
وهذا البعد الدنيوي للعلمانية هو ما تشير إليه الموسوعة البريطانية في تعريفها لSecularim :
" هي حركة اجتماعية تهدف إلى صرف الناس عن الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بهذه الدنيا وحدها ."

إذن فالعلمانية ليست مجرد إجراء شكلي يفصل الدين عن حقل السياسة ، بل هي إيديلوجية متكاملة العناصر و"رؤية إلى العالم " بكل ما تحمله من بعد عقدي. إيديلوجية نشأت في سياق تاريخي خاص ، وارتبطت بالميراث الفكري للغرب وإشكالاته الواقعية.

ومن هنا تغدو مقاربتها بالمنظور التاريخي أمرا واجبا لتصحيح رؤيتنا لها.

وفي سبيل ذلك نتساءل :

كيف نشأت العلمانية؟
وماهي الشروط الثقافية والمجتمعية التي أدت إلى بروزها؟


يتبع.. إن شاء الله تعالى.
« آخر تحرير: 2009-11-13, 19:52:21 بواسطة تمرة »

غير متصل سيفتاب

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 7766
  • الجنس: أنثى
  • إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ

متابعة معك يا تمرتنا
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ
وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ

حازرلي أسماء

  • زائر
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

ربما قرأت الأسطر الأولى فقط من المداخلة الأولى .... أسجل لأعود وأقرأ بإذن الله يا تمرة

تمارا

  • زائر
..

أهلا وسهلا ومرحبا  emo (30):

نعم أحثك على القراءة يا أسماء، فمن من المهم أثناء سعينا لأقامتنا شرع الله جل وعلا ونشر دينه أن نفهم حقيقة تلك المشروعات المعادية، بشكل منضبط ودقيق. فكثيراً ما تكون النظرة القاصرة سواء المفرِطة أو المفرِّطة سبباً في صد الكثيرين عن إدراك حقيقة تلك المناهج المختلة! وليس كل علماني مسلم أو داع للعلمانية مدرك لأبعاد هذا المشروع، وليسوا جميعهم عملاء وخونة.. بل كثير منهم غافلون، وبالتأكيد هم بغفلتهم يعملون لصالح أعداء الله قصدوا أم لم يقصدوا، تماماً كشأن كل من يتقاعص عن إقامة شرع الله جل وعلا في حياته ويتقاعص عن الالتزام بأوامره ونواهيهه جل وعلا،

فالمسؤولية فردية وجماعية.  هدانا المولى العظيم إلى صراطه المستقيم.


 

تمارا

  • زائر
في نشأة العلمانية

ليست العلمانية فكرة ورؤية طارئة أو نتاج حدس فكري انبجس فجأة في ذهن فيلسوف، أما سك جورج هوليوك سنة 1851م للمفهوم فما هو سوى وصف لظاهرة ثقافية ومجتمعية سائدة وليس تنظيرا يعبر عن مطلب، فالكيان الثقافي والحضاري الغربي، في تقديري، هو من حيث طبيعته كان مهيئا لانبثاق وتشكل الايديولويجة العلمانية قبل العصر الحداثي.

ولهذا نجد العديد من الباحثين يؤكدون على كون العلمانية هي نتاج خاص بالتجربة الغربية كالأستاذ محمد عابد الجابري وحسن حنفي وعماد الدين خليل غيرهم ... .

لكنني لاحظت أن الأستاذ الجابري مثله مثل العديد من الدارسين والكتاب يرجع شروط انبثاق العلمانية إلى الدين المسيحي وتجربته الكنسية. وهذه الرؤية في نظري تعبر عن قصور عن استيعاب نسق الحضارة الغربية ومحدداته الثقافية.

فإن كنت أتفق مع هؤلاء الباحثين في كون العلمانية نتاج الشرط الثقافي والتاريخي الغربي، فإنني أختلف مع هذه القراءة التي تربط العلمانية بالدين المسيحي، حيث أراها قاصرة عن استيعاب سياق التاريخ الثقافي الغربي وتفسيره في كليته، إذ بانطلاقها من لحظة المسيحية تنسى صيرورة تطورية هامة ثاوية خلفها.

فالنسق الثقافي الأوربي يرتكز ما قبل القرون الوسطى على محددين ثقافيين كبيرين هما المحدد اليوناني والمحدد الروماني.
وفي هذين المحددين ينبغي البحث عن مكانة الدين وموقعه من الحياة. حيث ستتضح الجذور الاعتقادية والفلسفية للعلماني، ومن ثم لن نستغرب ما ستؤول إليه التجربة الحضارية الغربية لاحقا، لأنها مجرد نتاج منسجم مع المقومات الثقافية الغربية....فالوعي الغربي في أصوله القديمة هذه كان وعيا مهيئا لاقتبال العلمانية والتأسيس لها.

حيث نلاحظ أن مفهوم الألوهية في الفكر الأسطوري الغربي مفهوم منحط ليس له مقام التعظيم والإجلال، فهو لم يخلق الكون بل جاء لرعايته فقط ( أنظر تيوغونية هزيود )، بل إن علاقة الإنسان بالآلهة علاقة تصارع وتنافر وتحاسد، ولاشك أن هذا التصور كان له تأثير مدمر على معنى الدين في العقلية والوجدان الغربي، ومهيئا إياه لاقتبال الفكر العلماني ( أنظر أسطورة برومثيوس ).

ينضاف إلى ما سبق أن صيرورة تطور الفكر والاجتماع الأوربي سيزيد في إساءة صورة الدين ومفاهيمه.
فالمجتمع الأوربي خلال القرون الوسطى دخل في متاهة وتخلف مدقع، فالفكر الديني المسيحي لم يكن يستند إلى مرجعية الوحي، إنما إلى نص محرف داخلته اليد البشرية بالإضافة والحذف والتبديل. وكان من طبيعة هذا النص البشري أن يتعرض مع صيرورة تطور الوعي الإنساني إلى الاهتزاز والخلخلة واكتشاف نقائضه وخرافاته.

ولقد كانت الكنيسة مؤسسة مستبدة، تسود على الأنظمة والإقطاعيات، وللحفاظ على هيبتها كان لابد من حفظ رأسمالها الثقافي الإنجيلي من أي نقد . ونتيجة وعي الكنيسة بضعف نصها ذهبت إلى حد جعل تفسيره من اختصاص البابا نفسه، مانعة الوعي الإنساني من قراءة وفهم النص على نحو مستقل، مؤكدة بذلك ضمنيا أن نصها الإنجيلي مهزوز ومختل وأي قراءة مستقلة ستكشف زيفه.

وبما أنه نص بشري ، بسبب كونه لم يبق على أصله كوحي ، كان لابد أن تظهر أفكار تناقضه وكشوفات علمية تثبت أخطاء فيه.
ومن هنا نفهم سر تلك الهجمة الكنيسية ضد العلماء إلى درجة بلغ عدد ما تم احراقه في محاكم التفتيش حسب بعض الإحصائيات إلى ما يزيد على إثنى عشر ألف شخص... وذلك محاولة منها لمنع صيرورة تطور الوعي وإبقاء معتقداتها الإنجيلية الخرافية في مأمن من البحث والتفكير والنقد.

من هنا أقيم في الفكر الأوربي خصام حاد بين الدين والعلم..
وهذه الخصومة تنسجم أيضا مع المرجعية الأسطورية والفلسفية الأوربية التي سبق أن أشرنا إليها من قبل.

ينضاف إلى ما سبق أن الكنيسة هيمنت سياسيا الأمر الذي أدخلها في صراع مع القوى السياسية.
ومع التطور الزمني أخذت قبضة الكنيسة تتهلهل وتضعف، وبازدياد فسادها ظهرت حركة الإصلاح الديني البروتستانتي، التي دعمها بعض الملوك ،فانتهت إلى استقلال الدول وظهور القوميات الأوربية. وكان لابد لعملية الاستقلال عن سلطة البابا من أن تؤسس لفصل للديني عن السياسي، فاصطلح على هذا الفصل بالعلمانية.

بيد أنه في العمق لم يكن مجرد فصل للسلطة الزمنية عن السلطة الدينية، بل كان فصلا للدين عن الحياة بكل بنياتها.

وعندما تهاوت سلطة الكنيسة انطلق الفكر والعلم ليقيم قطيعة بينه وبين الدين. وموازاة مع ذلك انطلق التشريع السياسي للمجتمع ليقيم قطيعة بينه وبين الدين.فظهرت نظرية العقد الاجتماعي لإعادة تأسيس الحقل السياسي خارج سلطة الكنيسة، وامتدت عملية استبعاد الدين إلى باقي مؤسسات المجتمع.

وقد تزامنت هذه التحولات مع انتقال أوربا من النمط الإقطاعي إلى النمط البورجوازي فالرأسمالي بفعل الثورة الصناعية، وانطلقت أوربا إلى استعمار باقي أقطار ألأرض ونهب ثرواتها المادية والبشرية ( الاستعباد ) فتشكلت بفعل عملية النهب هذه ظاهرة النهوض الغربي.

فما حقيقة هذا النهوض الغربي؟


يتبع.. إن شاء الله تعالى.

غير متصل ماما هادية

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 15901
  • الجنس: أنثى
  • احفظ الله يحفظك
متابعة معكم

تأخرت عنكم
لكن لحقت بكم والله الحمد

بانتظار التتمة يا تمرة جزاك الله خيرا
*رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ*

تمارا

  • زائر
..
أهلاً وسهلاً..  emo (30): سيعجبك الطرح إن شاء الله يا ماما هادية.

تمارا

  • زائر
حقيقة النهوض الغربي

وهنا ينبغي أن نتوقف لحظة عند هذه الظاهرة لتصحيح بعض التصورات الخاطئة بشأنها.

لكن لماذا هذه الوقفة ؟
ذلك لأن التاريخ السياسي والثقافي الغربي يحتاج إلى إعادة قراءته لكشف زيف ادعاءاته ومزاعمه، ونقد أسسه ومفاهيمه المغلوطة، حتى نتحرر من الإعجاب السالب به والانبهار الذهني والنفسي، الذي أصاب بعض الفئات الاجتماعية، فولد عندها عجزا عن فهم الذات والواقع من دون تصورات الغرب ومنظوراته. هذه التصورات الغربية تعد في تقديري عاملاً أساسياً في تزييف نظرة المثقف العربي إلى ذاته وحضارته.وموضوع العلمانية جزء من هذا الوعي المستلب المنبهر بالغرب.

يصف الفكر الغربي القرن السادس عشر بأنه عصر نهوض، وتجليات هذه النهضة حسب هذا الفكر تتحدد في:
خلاص الإنسان من نظام القنانة، وتحرر الفلاح من استغلال الإقطاع.
وظهور نظام المواطنة والمساواة.
إضافة إلى هذا، هناك أيضا الخلاص من الحكم الاستبدادي، وإقامة حكم برلماني ديمقراطي بفعل ثورة كرومويل 1649 والثورة الأمريكية 1773 والثورة الفرنسية 1789.

هذه هي أبرز المحددات والقيم التي تجعل من تلك اللحظة التاريخية لحظة نهضة وتنوير، وهي القيم نفسها والمحددات التي يبرزها الخطاب العلماني العربي عند كل دفاع عن القيم الحضارية الغربية.

ونحن في هذه السطور نريد أن نطرح القضية للتفكير والتأمل والمناقشة سعياً نحو الكشف عن حقيقة النهضة الغربية، ونبتدئ بالإشارة إلى أننا إذا قرأنا هذه التحولات من داخل المنظور التاريخي الغربي، فلا شك سننتهي إلى القول أن هذه الفترة تستحق أن تسمى عصر نهضة وتنوير، إذ تحققت فيها حرية الإنسان من قيود الاستعباد الإقطاعي والكنسي والسياسي.

لكن إذا قرأنا تلك اللحظة التاريخية في أبعادها الشمولية فإننا سنلاحظ أن ثمة صورة يتم إخفاؤها عمدا وهي:
إن الخلاص من نظام القنانة (ارتباط الفلاح بأرض/إقطاعية النبيل ارتباطا مطلقاً)، لم يكن بفعل تطورات داخلية فقط، ولم يكن بفعل يقظة الشعور الإنساني وإدراك لكرامة الإنسان، بقدر ما كان نتيجة للشروط المستجدة التي أوجدتها الكشوفات الجغرافية، التي ابتدأت منذ القرن الخامس عشر باكتشاف أمريكا..

هذه الكشوفات التي أفرزت الحاجة إلى إطلاق حملات ضخمة للاستعمار والاستيطان.
فهذه الشروط الاستعمارية هي التي ولدت الحاجة إلى تبديل علاقات الإنتاج الاقتصادي الإقطاعي، حيث أن نظام “القن” كان يمنع انتقال الفلاح للحروب الخارجية، واستيطان البلدان المكتشفة، وهذه ملاحظة مناقضة للنظرة الذاتية الغربية، إذ تفسر التحول من النظام الإقطاعي بفعل الاحتياجات الاستعمارية، عكس الرؤية الغربية التي أرجعت النهوض الغربي والتحول من الإقطاع إلى البرجوازية إلى تحول داخلي فلسفي وعلمي واقتصادي.

كما أن هذه الاكتشافات شهدت فظاعات إنسانية حيث انطلق “الوحش الأبيض” من عقاله ليستعمر ويستعبد. فهل من الموضوعي وصف هذه اللحظة التاريخية بعصر نهضة وتنوير، استناداً إلى معطيات جزئية خاصة، مثل تحرير القن الأوروبي من الإقطاع وإكسابه شخصية المواطن الحر؟

إذا كان الأمر كذلك فكيف يمكن إغفال استعباد الملايين من شعوب إفريقيا وأمريكا وآسيا؟

لقد تحدثت بعض الإحصاءات عن أن عدد الأفارقة الذين ذهبوا ضحية الوحش الأبيض الناهض والمتنور صاحب العقد الاجتماعي وشعار حقوق الإنسان فيما بين 1600 و،1900 يصل إلى أكثر من مئة مليون ما بين مختنق في أقبية البواخر وما بين ميت تحت سياط التعذيب الرهيب ... هذا دون تعداد ضحايا الهنود والآسيويين.

وإذا كان من معالم التجربة العلمانية الغربية رفع محاكم التفتيش عن الفكر وإزالة الاستبداد المعرفي الكنسي عن اوربا فكيف ننخدع بذلك؟ والعلمانية الأوربية قد عممت محاكم تفتيشها على العالم كله؟ بما قام به الاستعمار من تهميش وتدمير للثقافات الأصلية وفرض بالحديد والنار لثقافته وتصوراته؟

وإذا كان من معالم العلمانية الغربية ظهور البرلمان والدمقرطة السياسية فلماذا ننسى مواثيق وعهود الاستعمار واستعباد الشعوب واستغلالها التي صاغتها هذه البرلمانات نفسها؟

لكن نقدنا هذا للتجربة العلمانية الغربية قد يناهض من قبل المنافحين عنها بدعوى أنني نقدت نشأتها وصيرورتها من حيث تعاملها مع الآخر لا من حيث واقعها ذاته، أي بما حققته في الغرب من رفع للاستبداد وتحرير للفكر وتوكيد لحقوق الإنسان... بل قد يقول الداعون للعلمانية في العالم العربي بأنهم هم أيضا يرفضون النزوع الاستعماري الغربي، وأن قبولهم بالعلمانية لا يعني القبول بالهيمنة الاستعمارية ولا الدعوة إلى الخضوع لها ، بل هو أخذ بهذا المبدأ الذي حقق للغرب قوته وجعله متفوقا على غيره من الشعوب.

اعتراض كهذا يستدعي منا الانتقال إلى التفكير مليا في واقع العلمانية في الغرب، ومسائلتها نقديا لبيان حقيقة ما أنجزته للإنسان الغربي.

..

تمارا

  • زائر
ما قيمة العلمانية؟

ما قيمة العلمانية؟ وهل تصلح لتحقيق المشروع النهضوي العربي؟

يذهب الطرح العلماني العربي إلى النظر إلى العلمانية بوصفها الحل الوحيد لإشكالات واقعنا الثقافي والسياسي والاقتصادي ، بل يكاد يتحدث عنها وكأنها العصا السحرية التي يتم بها قلب أوضاعنا المتخلفة إلى أوضاع يتقدم فيها الفكر ويترقى الواقع!

فهل العلمانية حقا بهذه القيمة التي يتحدث عنها؟ أم أن هذا الكلام مجرد خطاب تسويقي فارغ يشابه الخطابات التي ترافق تقديم أي سلعة ، ومن ثم يكون اختبار مدى مصداقيته باختبار السلعة ذاتها لا بالاكتفاء بالإنصات إلى الخطاب الدعائي المرافق لها؟

لقد سلف أن أوضحنا أن العلمانية هي معالجة لإشكال ثقافي ومجتمعي أوربي، ومن ثم قلنا أنها غير قابلة للاستنساخ والتطبيق في نظم ثقافية وحضارية أخرى ، وخاصة الحضارة الإسلامية نتيجة توافرها على مقومات خاصة وتجربة دينية متميزة. لكن دعنا نفترض أن العلمانية قابلة لان تستنسخ في واقعنا ويعاد إنتاجها ، فإن السؤال الذي يفرض نفسه هو : هل تستحق حقا أن تستنسخ وتقلد؟ هل سيكون استيرادنا للعلمانية استيرادا لحل أم استيرادا لمشكل ؟

للإجابة على هذا الاستفهام نحتاج إلى بحث واقع العلمانية في الغرب لنرى نتائج المشروع العلماني ، فنتلمس من ثم مدى استحقاقه أو عدم استحقاقه للنقل والتقليد .

ولتقييم المشروع العلماني الغربي نحتاج إلى استحضار صيرورته التاريخية الحداثية، ذلك لأن هذه الصيرورة بما شهدته من تحولات وانتصارات وانتكاسات كافية لبيان طبيعة وقيمة هذا المشروع:
لقد بدأ العصر الحداثي الأوربي بسلسلة من التحولات الثقافية والمجتمعية تمثلت على المستوى الثقافي في الانفصال عن سلطة النص الإنجيلي، وعلى المستوى المجتمعي تمظهرت في الانتقال من نظام إقطاعي إلى نظام رأسمالي. وهنا يمكن القول إن العلمانية أسهمت إسهاما إيجابيا في تخليص المجتمع الأوربي من سلطة كنسية كانت تستبد بالفكر والفعل الإنسانيين، وكانت تعمل على إبقاء الواقع ثابتا جامدا كابتة بذلك فعالية الإبداع والتجديد.

وبالتالي يجوز القول إن الانفصال عن سلطة الكنيسة شكل دعامة أساسية لتحقيق النهوض الأوربي. لكن هذا الانفصال سيتطور لاحقا إلى إغراق الواقع الثقافي والمجتمعي الأوربي في مأزق خطير، وهو ما سنبينه فيما يلي :
على المستوى الثقافي تطور الانفصال عن النص إلى قطيعة مع الدين كمرجعية. ومن ثم كان لابد للغرب من البحث عن مصدر آخر لتأسيس الحقيقة ومعايرتها. ومن هنا جاءت الفلسفة الديكارتية لإرساء العقل / الأنا أفكر/ الكوجيتو بوصفه مرجعية الحقيقة وتقعيد معيار لقياسها .

ولم يكن المشروع الديكارتي مجرد فكرة انبجست في ذهن فيلسوف مفرد ، بل كان نغمة منسجمة مع سياق التاريخ الأوربي الذاهب نحو إرساء العلمنة. فسقوط مرجعية النص الإنجيلي كان يدفع نحو ضرورة إيجاد بديل، وكانت النخبة الفكرية الأوربية مترقبة لهذا البديل ومستعدة لتبنيه والمنافحة عنه.

ولهذا فالمشروع العقلاني الديكارتي كان سلعة منتظرة ، فما إن ظهر "المقال في المنهج" و " تأملات ميتافيزيقية" حتى انتشر الفكر الديكاتري في اوربا بمختلف أقطارها انتشارا ملفتا للانتباه.والواقع أن الناظر في كتاب "المقال" سيلاحظ انه ليس بالكتاب الذي يؤسس لمعمار فلسفي ذي عمق ، بل هو كتاب لا يخلو من بعض السطحية في كثير من مواقعه وموازناته المعرفية. بل إن الفكرة المحورية فيه ( أي سيرة الأنا أفكر والاستدلال على أولويته الأنطلوجية) هي فكرة نجد فيها من حيث منهجية السرد بصمة واضحة من أبي حامد الغزالي، الذي قرأ ديكارت كتابه المنقذ من الضلال، وفيها من حيث البرهنة على عدم إمكان الشك في وجود الكوجيتو بصمة واضحة من القديس أوغسطين.

بيد أن هذا الكتاب البسيط ،والسطحي أحيانا، كان معبرا عن روح العصر ، وناطقا بما يعتمل داخل الواقع الثقافي الغربي ، لذا لا غرابة أن يوجد للديكارتية ما لم يوجد لغيرها من الأفكار والفلسفات ، إذ سرعان ما ظهر تيار الديكارتيين مع جولنكس ، ودنيال ليبستورب، وكريستيان فيتيش، بل حظي هذا التيار بالدفاع عنه من قبل مفكرين بارزين، يمكن أن ندرج من بينهم أسماء عمالقة الفكر الأوروبي في هذا القرن بدءا من مالبرانش وانتهاء بلايبنز..

أجل لقد أصبح ديكارت المرجع الفكري لعصر بأكمله، ومن ثم كان لابد لكل فلسفة تظهر من أن تتخذ منه موقفا سواء ضده أو معه. ولذا لا ينبغي أن نندهش إذا قلنا إن الفلسفات اللاحقة لديكارت ( وخاصة تلك التي ظهرت خلال القرنين18و19 ) حتى تلك الأكثر نسقية وعمقا من الفكر الديكارتي نفسه كفلسفات لايبنز وسبينوزا ، لم تكن سوى هامش على متن ديكارت ، ذلك لأن هذا المتن كان بحق متن العصر الحداثي الغربي.

ما هو باختصار مبدأ هذا المتن الديكارتي؟
إن مبدأه هو أن العقل قادر بإمكاناته الابستملوجية الذاتية أن يصل إلى الحقيقة. ورغم حرص ديكارت على احترام الكنيسة ومقررات الدين فإن مبدأه هذا كان المدخل لاستبعاد المرجعية الدينية وإحلال العقل محلها، فاتحا بذلك المسار نحو تأليه العقل في الفكر و الثقافة الغربية.

وخلال القرن الديكارتي ( القرن السابع عشر) كان فرنسيس بيكون يؤسس هو الآخر قطيعة مع المرجعية الدينية ويحل العقل التجريبي محل النص الديني.
لكن العقل البشري ليس مهيئا لأن يحل محل الإله. فهو بإمكاناته المعرفية المحدودة عاجز عن الإجابة على التساؤلات الماورائية التي تشكل الهاجس الفطري للإنسان.

ولذا بدأ القرن الثامن عشر في التشكيك في قدرة العقل ، فكان المشروع النقدي الكانطي خطوة هامة في تعيين حدود اشتغال الذات المفكرة. فكان الإدراك العقلي عند كانط محدودا أنطلوجيا بمجال الظاهر فقط ، أما الحقيقة والجوهر فهي من مجال خارج نطاق وإمكانات المعرفة البشرية. لكن هذا التمييز الكانطي بين الظاهر( الفينومين ) والشيء في ذاته ( النومين ) ، وتوكيده على استحالة بلوغ العقل الإنساني إلى النومين لم يكن فقط توكيدا على نسبية المعرفة البشرية بل توكيدا للشكية التي حاول كانط جاهدا أن يقلل منها من خلال نقده لفلسفة هيوم لكنه انتهى دون قصد إلى إعطاء الشكية دعامة نظرية هامة.

ولقد كانت صيرورة الفكر الغربي من بعد صيرورة مقلقة لأنه استبعد مرجعية الدين من أجل التشبث بمرجعية العقل البشري ، لكنه انتهى إلى أن هذا العقل عاجز عن إجابة تساؤلاته الأساسية ، فكان هذا إيذانا ببروز الثورات اللاعقلانية الرافضة لأولوية الكوجيتو وناقدة لقيمته ، فظهرت فلسفة نيتشه وفرويد وهيدغر التي نقضت العقل واستبعدته.

ومن ثم إذا كان القرن السابع عشر قد رفض مرجعية النص الديني وأقام محلها مرجعية العقل مع ديكارت ، فإن القرن الثامن عشر استنزل هذا العقل من مقام التأليه بفعل النقد الكانطي ، حيث بين محدودية قدراته الابستمولوجية، لكن القرن التاسع عشر لن يرضى بهذا النقد الابستمولوجي بل سيتعداه إلى نقد أنطلوجي وصل حد التشكيك في وجود العقل ذاته ، أو استهجانه واحتقاره أشد الاحتقار كما هو الحال مع نيتشه، الذي سيكون فاتحة لبروز التيار الفلسفي اللاعقلاني وتأسيسه لمابعد الحداثة في القرن العشرين.

وتأسيسا على ما سبق نلاحظ أن التحول العلماني قام على المستوى الثقافي باستبعاد المرجعية الدينية وإقامة العقل كمرجعية بديلة. لكن صيرورة تطور المشروع الثقافي العلماني اللاديني دالة على إفلاس هذا البديل ، حيث عجز العقل عن أن يقوم بوظيفة المرجع فانتهى الفكر الغربي إلى السقوط في اللاعقلانية.

ومن الملحوظ أن هذا الاهتزاز للعقل سيدفع إلى تجسيد ثقافة الجسد والغريزة والشهوة. فتحولت الحضارة الغربية العلمانية إلى حضارة لادينية ، حضارة قلق وشك ، حضارة اختزلت الكائن الإنساني ومطالبه واحتياجاته في الكائن/ الجسد ( انظر فلسفة جورج باطاي). حضارة وسائل لا حضارة غايات، حيث استحال الإنسان نفسه إلى وسيلة وأداة.

إن العلمانية أزالت فكرة المرجعية فاستحال كل شيء مباحا ، ومن ثم لا غرابة أن نجد التشريع القانوني الغربي ينزع نحو قلب كل المفاهيم والأعراف الإنسانية حتى تلك المرتبطة بالأسرة ، حيث ظهرت الأسرة المثلية القائمة على عقد قران الشواذ والسحاقيات. كما انتهى النسق الاجتماعي الغربي العلماني إلى التفكك واختلال القيم.

ومن الطبيعي أن تعجز هذه الحضارة المادية عن إسعاد الإنسان لأنها ابتداء أخطأت فهمه وفهم احتياجاته، حيث عاملته بوصفه كائنا حيوانيا ( الرؤية الداروينية) فانحصرت في الاستجابة لحاجاته الحسية فحسب.

بيد أن الإنسان "كائن ميتافيزيقي" ،كما يقر بذلك حتى الفيلسوف الملحد شوبنهور ، لذا كان لابد أن يعجز المشروع الحداثي الغربي أن يجيب على أسئلته الوجودية الكبرى فتسقط حضارة الغرب بأكلمها في ما يسميه إدمونت هوسرل ب"أزمة المعنى".وهذه الأزمة هي ما أشار إليه من قبل ماكس فيبر حينما نبه إلى أن صيرورة المجتمع الحداثي الغربي سارت في اتجاه ما يسميه ب"نزع الطابع السحري عن العالم" الأمر الذي يؤول إلى غياب معنى الوجود ذاته، وبالفعل ذاك كان هو مصير الحداثة العلمانية الغربية.

ولقد أدرك بعض فلاسفة الغرب ،حتى الملحدين منهم، خطورة اللادينية ، فتوماس بين Thomas Paine على الرغم من عدم إيمانه بالأديان يؤكد ضرورة الإيمان بوجود الله ، لان النسق الأخلاقي كله ينهار باستبعاد وجود الإله.إذ أن الأمر هو بالفعل كما يقول الروائي الروسي دوستوفسكي "بدون الإله يصبح كل شيء مباحا". وهذا ما أشار إليه من قبل فولتير عندما قال "إذا كان الله غير موجود يجب اختراعه"، وذلك تعقيبا منه على الدعوات الإلحادية الساذجة التي تحسب أن استبعاد الإيمان بالله من ثقافة المجتمع يُمكن من الارتقاء بذلك المجتمع إلى ما هو أفضل.

لكن المشروع العلماني اللاديني سيرتكب خطأ فادحا في فهمه للإنسان حيث سيظن أن الدين مجرد نمط في التفكير والشعور قابل للتجاوز. وهي النظرة التي عبر عنها كارل ماركس وصاغها بوضوح فج أوجست كونت في ما سماه ب"قانون الحالات الثلاث".

لكن هل بالفعل إن الدين قابل للتجاوز؟؟؟؟
يمكن استبعاد الدين من مجالات وحقول مجتمعية لكنه لا يمكن أن استبعاده من الكيان النفسي للإنسان ذاته،لأنه احتياج فطري. ومن ثم كان لابد للمشروع الثقافي والمجتمعي الغربي من أن يسقط في مأزق غياب المعنى والقلق.

وكما يقول د.عماد الدين خليل موضحا مأزق الإنسان داخل الحضارة العلمانية في ظلال المجتمع العلماني يتمزق الإنسان بناء على تمزق مصيره، وتزدوج شخصيته اعتماداً على الثنائية التي اصطنعها بين المادة والروح، والجدران التي أقامها بين تجربتي الحس والوجدان، والجفاء الذي باعد به زيفاً بين عالمي الحضور والغياب، بين ما هو قريب ومرئي وما هو بعيد لا تراه العيون، والتصور الذي يصدر عنه ذلك الإنسان لا يوائم بحال بين العلاقات المعقدة المتشابكة التي تحكم الكون والعالم والحياة، بل هو تصور يفصل بالقسر والعناد بين هذه العلاقات جميعها، يمزقها تمزيقاً، ويعمل فيها تقطيعاً وتشويهاً، فتغدو طاقات الكون والإنسان والحياة وما بينها جميعاً من وشائج وارتباطات -تغدو في حس العلماني وتصوره فوضى يسودها الانفصال والصداء والجفاء.. الدين يتناقض مع العلم، والفلسفة العقلية ترفض التشبث الطبيعي بالواقع الملموس والمذاهب الطبيعية لا تلزم نفسها بقيم خلقية أو إنسانية.

وهكذا..
سلسلة من المصادمات التي لا تقتصر آثارها السيئة على العالم الخارجي فحسب، بل في أعماق الإنسان وتجربته الذاتية كذلك.. ذلك أن كل قيمة وطاقة أو فاعلية مما ذكرنا ترسم له مصيراً معيناً، وتسعى إلى شده إليه، فيغدو بالتالي مشدوداً إلى مصائر شتى متفرقة متناقضة لا يسودها التوحد والانسجام، وهذا هو السبب العميق الذي يؤدي -في العلمانية - إلى التمزق والازدواج، فالإنسان العلماني يقسم فعالياته الحياتية إلى قطاعات ومساحات منفصلة، يسعى في كل منها إلى تشكيل مصيره في إطار ذلك القطاع أو تلك المساحة وبطريقة (انعزالية) تماماً عن سائر الفعاليات، وهو خلال ذلك لابد أن يشعر بالتناقض المرير بين فاعليات حياته جميعاً، وينظر -أخيراً- فيرى حياته وقد تشتت وكيانه الذاتي وقد أصيب بالازدواج " .

وهذا ما يجعل المشروع المجتمعي العلماني اللاديني مدمرا للنفسية الإنسانية حيث يقيم شرخا غير قابل للرتق . فكما يقول موريس بلوندل "ليس هناك ملحدين بمعنى الكلمة" ، أي أن كل إنسان يشعر بالحاجة إلى التدين. ولذا نرى أن العلمانية اللادينية في الغرب لم تستطع أن تزيل الاعتقاد من الوجدان الأوربي ، بل كل ما فعلت هو أنها أسست لواقع ثقافي ومجتمعي دمر النفسية الإنسانية ، وخلخل إيمانها وأسلمها للشك في الدين والقلق الوجودي، وإن لم يستطع انتزاع الإيمان منها.

والأمر الدال على ذلك هو واقع الحالة الدينية في الغرب ذاته ، فمما لفت انتباهنا هو سقوط النبوءة الوضعية الكونتية بزوال الاعتقاد الديني. وبين يدينا آخر إحصائية لحالة الإيمان في المجتمعات الأوربية أنجزتها مجلة رايدرز ديجست في طبعتها الفرنسية الصادرة في شهر مارس 2005. وقد علقت لونوفيل أبوسرفاتور الفرنسية على هذا الاستبيان في مقالة عنونتاها ب"سبعة من عشرة أوربيين يعتقدون بوجود الله".

إن الاعتقاد الديني حاجة بشرية غير قابلة للتجاوز ، ولكونها كذلك يصبح لزاما على أي مشروع ثقافي ومجتمعي أن يستحضر هذه الحاجة ويستجيب إليها. ولذا فالعلمانية/ اللادينية مشروع ثقافي ومجتمعي متهافت، يمكن بنزوعه الأداتي والمادي أن ينجح في بناء حضارة من طوب واسمنت ، لكنه عاجز عن بناء حضارة قادرة على إسعاد الإنسان.

لكن قد يقول العلماني العربي : إنني لا أدعو إلى إلغاء الدين ، بل إلى استبعاده عن التنظيم السياسي للمجتمع، بتأسيس واقع تعددي ديموقراطي لا يتم فيه التمييز والفصل بين المواطنين على أساس المعتقد.

وجوابي على ما سبق أن هذا الطرح ليس طرحا علمانيا، بل من الخطأ استحضاره تحت لبوس العلمنة ، لأنه كما بينا سالفا فالعلمانية رؤية فلسفية وليست مجرد إجراء شكلي يفصل حقل السلطة السياسية عن الدين.إنها رؤية فلسفية تحرص على استبعاد الدين وقيمه من المجتمع بأكمله، أما فصله عن السياسة فما هو إلا جزء من المشروع لا كله.

لكن قد يقال : لماذا نرفض أن ينادي العلماني العربي بهذا الجزء من المشروع فقط؟ هل مشروع العلمنة نسق مترابط غير قابل لأن نأخذ منه ؟ أليس من التسرع أن نحكم على مشروع بأكمله بالإفلاس دون أن نجد فيه ما يمكن أن يفيد ؟

تساؤلات مشروعة بلا شك.لكن من المشروع أيضا أن نتساءل أسئلة أكثر منهجية وهي :
هل هذه النقط الايجابية التي يستحضرها العلمانيون العرب وينادون بها مرتبطة بالعلمنة ومرتهنة بها؟


يتبع إن شاء الله

ماما فرح

  • زائر


قرأت بعض الموضوع وأواصل قراءة الباقي  شاكرةً لك ما نقلت

تسجيل متابعة وجزاك الله خيراً

تمارا

  • زائر
..

أهلاً وسهلاً ماما فرح..  emo (30):

وإياكِ.. وإياكن.

أين أنت يا أبا بكر.. أتتابع معنا أخي الفاضل ؟ أحثك أنت بشكل خاص أن تقرأ.

تمارا

  • زائر
لا ارتباط بين الديموقراطية والعلمنة:

عندما يتحدث هؤلاء عن العلمانية بوصفها حلا لإشكالات واقعنا السياسي والثقافي غالبا ما يستحضرون مفاهيم التعددية والتسامح وعدم التمييز الديني والطائفي ... وهي أمور تختزل في الديموقراطية بوصفها آلية تنظيم الحقل السياسي.

وليس لدي اعتراض على الديموقراطية فهذه مسألة ناقشها الفقهاء والمفكرون الإسلاميون المعاصرون وانتهى العديد منهم( حسن البنا ، القرضاوي، توفيق الشاوي، الغنوشي، الريسوني ، فهمي هويدي،محمد سليم العوا ...) إلى تبنيها والاعتراف بقيمتها. لكن قبولي بالديموقراطية لا يجعلني أقبل بالعلمانية ، فثمة فاصل بينهما. فلا ترادف بين الاثنين و لا تلازم أيضا.

فالديموقراطية كمفهوم وقيم نشأت قبل ظهور العلمانية في ثوبها الحداثي الغربي، إذ ظهرت في المجتمع الإغريقي القديم ، كما أن الممارسة الديموقراطية يمكن أن نجد ملامحها في تجربة الشورى الإسلامية ، مثلما نجد بعض أشكالها الأولية حتى في بعض المجتمعات القبلية أيضا.

هذا كما أن الاقتران بين العلمانية والديموقراطية اقتران خاطئ ، بل هو تحكم بغير دليل، فلا يعني تطبيق العلمانية تطبيقا للديموقراطية بالضرورة. وبرهاني على هذا أن الدولة السوفياتية بل ودول المعسكر الشرقي كله وبا قي دول المعسكر الشرقي البائد كانت دولا علمانية لكنها كانت دولا ذات نظم استبدادية تقوم على مفهوم الحزب الواحد.

بل حتى على مستوى الثقافي كان النموذج العلماني الاشتراكي نموذجا أحاديا يقمع الاجتهاد الخارج عن الأيديولوجية المعتمدة من طرف الحزب فينعته حينا بالتحريفية أو بالرجعية أو غير هذا وذاك من النعوت. بل كانت كتب ماركس ولينين كتبا مقدسا ، وكان الكتاب الأحمر لماو كتابا مقدسا لا يجوز خدشه بأدنى نقد. بل كان يصرف على طبعه بسخاء بالغ ويفرض فرضا على العقول بمختلف وسائل الإرهاب تمام كما يصرف على طبع صور الزعيم وإقامة تماثيله كمعبود وثني حيث "طبعت «اللجنة الثورية» العام 1966 مليارا و200 ألف ملصق! صورة التشرمان ماو. وعشرات ملايين النسخ من «الكتاب الأحمر».

ورفع «الحراس الحمر» شعارات من نوع «سوف نكون متوحشين». و«سوف نلقي بكم على الأرض وندوسكم». وسحل التلامذة أساتذتهم في الشوارع وضربوا النساء. وفي 5 أغسطس ضربت التلميذات في المدرسة التي ذهبت إليها ابنتا ماو، ضربن رئيسة المدرسة حتى الموت. ورفعت يافطات التقدير للمدرسة وسميت «المدرسة الحمراء العنيفة». وفي أنحاء الصين أرغم الضحايا على لعق دمائهم عن الأرصفة. وكتب ماو واحدة من «قصائده» يقول فيها: «ابن البطل عظيم دائما، ابن الرجعي لقيط". طوال سنوات اضطر الفلاحون إلى أكل العشب، ورأى ماو ثمة فائدة في الموت الجماعي. وفي 9 ديسمبر 1958 قال في اجتماع للقيادة: «المقابر الجماعية توفر سمادا جيدا للأرض»."

إذن ليس ثمة تلازم ولا ترادف بين العلمانية والديموقراطية ، ولذا أولى بالعلمانيين أن يعدلوا عن الطرح العلماني ويتجاوزوه إلى تبني الطرح الديموقراطي.

وهذا ما وعاه د.محمد عابد الجابري فدعا العلمانيين إلى نبذ العلمانية والمناداة بالديموقراطية حيث قال في مقالة له نشرها تحت عنوان" بدل العلمانية: الديموقراطية والعقلانية" بمجلة "اليوم السابع" عدد 224 بتاريخ 22/08/1988 :"مسألة العلمانية في العالم العربي مسألة مزيفة ، بمعنى أنها تعبر عن حاجات بمضامين غير متطابقة مع تلك الحاجات : إن الحاجة إلى الاستقلال في إطار هوية قومية واحدة ، والحاجة إلى الديمقراطية التي تحترم حقوق الأقليات ، والحاجة إلى الممارسة العقلانية للسياسة ، هي حاجات موضوعية فعلا . إنها مطالب معقولة وضرورية في عالمنا العربي ، لكنها تفقد معقوليتها وضروريتها بل ومشروعيتها ، عندما يعبر عنها بشعار ملتبس كشعار " العلمانية " ..

وفي رأيي انه من الواجب استبعاد شعار " العلمانية " من قاموس الفكر العربي ، وتعويضه بشعاري ّ "الديمقراطية" و " العقلانية" فهما اللذان يعبران تعبيرا مطابقا عن حاجات المجتمع العربي : الديمقراطية التي تعني حفظ الحقوق : حقوق الأفراد وحقوق الجماعات ، والعقلانية التي تعني الصدور في الممارسة السياسية عن العقل ومعاييره المنطقية والأخلاقية ، وليس عن الهوى والتعصب وتقلبات المزاج".

..

تمارا

  • زائر
..
وخلاصة رأينا نوجزه في النقط التالية:
أ- إننا نفصل بين العلمانية والديموقراطية ولا نرى بينهما ترادفا ولا تلازما.

ب- إن العلمانية في الغرب كانت رد فعل متطرف تجاه واقع متطرف ، فلم تكن مجرد معالجة لاستبداد الكنيسة ، بل كانت ثورة على الدين ذاته. فحاولت إيجاد آلهة بديلة فانتهت إلى الإفلاس. ومن ثم فهي فصل للقيم الدينية والأخلاقية والإنسانية عن الحياة ، وإرادة لتأسيس هذه الحياة على المعيار النفعي المادي الخالي من القيم.

ج- أعتقد أن البشرية اليوم تحتاج إلى هداية الوحي. وهذا ما لا يتوفر إلا في النص القرآني الذي ينبغي أن يتخذ مرجعية.


يتبع إن شاء الله.. لماذا المشروع الإسلامي وكيف ؟

غير متصل أم مريم

  • شباب نشيط
  • **
  • مشاركة: 154
2- لماذا المشروع الإسلامي وكيف؟

بناء على ما سبق أرفض المشروع العلماني وأنادي بالمشروع الإسلامي ، لأنه مشروع :
1- ينطلق من نص رباني سلم من التحريف والتزييف.
2- ويستجيب لفطرة التدين بعقيدة مقنعة للعقل ومطمئنة للقلب.
3- ويقوم في تشريعاته المجتمعية على المصلحة المنضبطة بقيم شرعية تمنع من أن يسقط الوعي والسلوك في النفعية المادية السائدة في الغرب.
4- ويؤسس نسق المصلحة العامة على مقاصد شمولية حددها الاصوليون، باستقراء قواعد وأدلة وأفعال الشارع ، مميزين فيها بين ما هو ضروري ، وحاجي، وتحسيني. فالضروريات خمس (حفظ الدين ، والنفس، والعقل، والعرض،والمال ) تنضاف إليها الحاجيات والتحسينيات.
5- يقبل بالاختلاف العقدي والفكري، ويعترف بضرورة وجوده واستمراره.
6- يؤكد أن السلطان من الأمة ويرفض الاستبداد .

إلا أن المشروع الإسلامي ليس نسقا جاهزا للتطبيق ، بل يحتاج العقل المسلم إلى تجديد منهجي لاستنزال وتكييف هذا المشروع مع الواقع الجديد ، لتحقيق النهوض. وأول مراتب هذا التجديد في تقديري هو الانتقال بمنهجيات أصول الفقه إلى تأسيس "علم مقاصد الشريعة" ، وهي دعوة كان قد نادى بها الأمام الطاهر بن عاشور بناء على دراسته وتأمله في كتاب الإمام الشاطبي"الموافقات".

لابد من تجديد منهجي ليتحرر المشروع الإسلامي من أسر:
1- جمود الوعي المسلم المعاصر ووقوفه الحرفي عند النصوص الشرعية دون إبصار مقاصدها.

2- وانغلاق فكر كثير من التيارات الإسلامية في فهمها للمشروع السياسي الإسلامي ، ولعل من نماذج هذا الانغلاق ذهاب كثير من الكتب الإسلامية المعاصرة إلى تكرار تصورات فقه "الأحكام السلطانية" ، فيتشبثون بالتسميات والأشكال ،فيتم تسمية الدولة بالخلافة، وقائدها بالخليفة، ولا يجوزون أي تسميات أخرى.بل يذهب البعض إلى ضرورة القرشية ، ويذهب الشيعة إلى قصر الإمامة في آل البيت.. وهي كلها آراء تعوق تطبيق مقصد الشارع وتضاد المصلحة العامة.

3- ونظرية عدم تأقيت مدة حكم الخليفة بحيث لا يجوز عند البعض تحديده مدة خلافته ورئاسته للدولة الإسلامية بل يبقى فيها مدى الحياة. وقد انتقد الفقه السياسي الإسلامي المعاصر هذه النظرية الموروثة وكان من أوائل من بادر إلى هذا النقد الدكتور السنهوري في بحثه "فقه الخلافة" سنة 1926م.
كما يحتاج دعاة المشروع الإسلامي إلى إنجاز دراسات وبحوث للواقع المجتمعي المعاصر ، لأدراك بنياته ومعطياته ، مع الحرص على تجديد الفقه ليتناسب مع طبيعة الإشكالات التي نعيشها ، فيستطيع تقديم الحلول المناسبة لها.

..

غير متصل أم مريم

  • شباب نشيط
  • **
  • مشاركة: 154
وختاما:
أرى أن المشكلة التي نعاني منها ليست مشكلة استبداد فحسب بل أزمة إنسان بكل أبعادها الاعتقادية والقيمية. وإذا كان دعاة العلمانية يستعملون الديموقراطية لمعالجة الاستبداد – هذا مع أنه لا وجود لارتباط تلازمي بين العلمنة والدمقرطة - فإن المشروع الإسلامي يعطينا معالجة أشمل لمشكلات أعمق ، مشكلة الاستبداد ومشكلة الاعتقاد والقيم.

لكن أكرر في هذا الختام إن هذا المشروع ليس إطارا فكريا بحيثيات وتفاصيل جاهزة بل هو إطار فكري يحتاج منا إلى الاجتهاد لتنزيله على نحو متناسب مع واقعنا .


-----------
مراجع المداخلة:
اعتمدت في صياغة هذه المداخلة على مراجع منها :
- عبد الوهاب المسيري "العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة" ، و"النظام السياسي في الاسلام " (حوارات القرن بين برهان غليون ومحمد سليم العوا)، ومقالة للدكتور محمد عابد الجابري من مجلة اليوم السابع، ومقالات للطيب بوعزة من جريدة الخليج الاماراتية، وكتاب "تهافت العلمانية لعماد الدين خليل، ومقالة لسمير عطا الله بجريدة الشرق الاوسط.

غير متصل أم مريم

  • شباب نشيط
  • **
  • مشاركة: 154
بفضل الله تعالى وعونه تم النقل.

لعلكم تستغربون أنه لم يسهب في الحديث عن المشروع الإسلامي.
كان للأستاذ حاتم نص آخر تلا هذا النص فيه تفصيل، ولكن حُذف بالخطأ نتيجة خلل في المنتدى أدى إلى حذف مشاركات عديدة، من ضمنها هذه المشاركة.

ولم يكن عند الأخ والأستاذ حاتم نسخة أخرى، وقدر الله وما شاء فعل.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
والحمد لله رب العالمين.

غير متصل elnawawi

  • أحلى شباب
  • *****
  • مشاركة: 5374
  • الجنس: ذكر
  • يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك
عدت وقرأت هذا الموضوع واستفدت منه .. صحيح أنه لم يتطرق بجدية إلى "المشروع الإسلامي" كما أسماه ولكنه على الأقل يعطي إجابات شافية حول العلمانية الغربية ونشأتها ومفهومها الشامل ..