استقرّ رأي (أبي سعد) على شهود غسل أخيه وتكفينه، وإعفاء أولاد أخيه من هذا.. لأن الأمر جد مروّع..... وحشر (سعد) نفسه....
ترجّى (أبو سعد) ابنه أن يخرج لأن الأمر شاقّ.... "لأجل خاطري.."... "يا أبتِ... في الكلّية أمور أصعب بكثير.... التشريح والحالات المتأخّرة...."... وسكت أبو سعد على مضض.....
رفع المغسل ومعاونه وسعد وأبوه المتوفى إلى المغسلة.... وجرع (سعد) حسرة جديدة.... "عمي يا حبيبي.." ... كانت قدما العم شاحبتين كالشمع.... كانتا مستسلمتين.....
بكى قلب سعد.. وما بكت عينه.... "هنيئًا للنساء دموعهن القريبة!"
شرع المغسّل يفكّ لبوس المشفى عن المتوفى... وجرّده إلا مما يستر سوءته..... نسيتُ أن أذكر لكم كم قضّى العم عمرًا في المشفى صابرًا مثخنًا بالجراح....
"يا إلهي معونتك....
عمّي المسكين..... عمّي يا حبيبي.....
يا إلهي.. كم هو صغيرٌ البدن!.... كيف حوى روحًا عظيمًا..... سرًّا يبعث اللسان صوتًا والعين لومًا ودموعًا والرأس لهبًا لا يستكين....."
كان العم مسجّىً هادئًا مستسلمًا مقفل العينين.... على وجهه أثارة من المطهّرات الصفراء وله لحية عمرها أسبوع أو أقل بقليل......... وفي رقبته فتحة لنقل السوائل والأدوية.... وكان بطنة مشقوقًا بجراحة فظيعة.......
اهتز سعد إلى سويدائه.... واختلس قبلة من جبين العم الواسع الجميل.... وراعته البرودة التي قرأ عنها في القصص...
"ما أجملك يا عم وما أذكى وجهك...."
وقبّل أبو سعد كذلك......
وأبو سعد رجل طيّب كبير.... أمدّه العم بماله أيام كان أبو سعد طالبًا في الجامعة -ولم يكن سعد ولا هم يحزنون-... ورعى أبو سعد ذمة أخاه في المشفى أيامًا طويلة على غربة ومرض.... إيفاءً لدين الشباب... وتعبيرًا عن جميل مودّته.....
كان المغسّل رجلًا طوالًا له لحية وافرة.... وكان معاونه شابًّا صغيرًا له لحية جديدة....
والمغسّلون -أيها القراء الأعزاء- قوم ماتت قلوبهم شأنهم شأن الأطباء والجزارين والضبّاط.....
طلب المغسل من سعد أن يسحق قالب الكافور ليجعله في الكفن.... وعاونه أبو سعد....
بينا بدأ المغسل ومعاونه يقصّان الأثواب البيضاء الطاهرة وجعلا منها قطعًا مستطيلة وأربطة....
وكان أن طلب المغسّل لاصقًا للجرح وقطنًا ومسحوق التلك....
بدأ المغسلان يصبان الماء.... وينعيان على الذين يهملون إيقاد السخان.... الماء جد بارد في طلعة الشتاء....
باشر الرجل عمله... وراح يلقي على سعد وأبيه تعليماته الصارمة التي لا يعلمها إلا المغسلين لا العوامّ بله أهل الميت المحزونين المنهارين....
"هيا اسندوا معي.... لماذا أنت قلق هكذا؟!.... إلى هنا!... هكذا!.... خذ هذا البخور فأشعله وفرّقه في المشرحة..... صب هنا عند يدي.... اخفض يدك قليلًا..... ضع هذه الساق هكذا.... لا تجلب الخرطوم عند الرأس.... هكذا!......"
وعقّب المغسّل الكبير بمرتين.... أولاهما فيها رغوة بيضاء..... وفي الأخرى سائل أخضر.... وكان يغمس لوفة في المسحوق ويدلّك الجثمان.... ليكن الجثمان!.... لأن العم كان كبيرًا جد كبير -أيها الإخوة-... كبيرًا إلى حد بدا معه الجثمان قميصًا مردمًا... "الله يرحمك يا عمّي......"
بعد أن انتهى المغسل من عمله طيّب وجه العم بعطر... وأمر المعاون بتجفيف الجثمان والمغسلة جيًّدا..... "لا أريد أن أرى نقطة مياه!"
كان أبو سعد محزونًا يختلس القبلات من أخيه.... وبدا وجهه محفورًا عند الجبين وعند الوجنتين وتحت العينين.... الدموع جد ضنينة على سعد وأبيه!
نشر المغسل ثلاثة أثواب تحت الجثمان وطوى آخرها من تحت الجثمان وقلبه.... وراح المعاون يسحب الأثواب تحت الجثمان ويفضّها....
"امسك هاتين اليدين جيّدًا -قال المغسّل الذي عقد يدي المتوفى عند الصدر-.... أنا أعلم أنها تنفكّ في النهاية....."
راح المغسل يلف الأثواب تباعًا... ولم ينس أبو سعد أن يطبع قبلة حارة طويلة على الجبين الحبيب الجميل..... وود سعد لو يفعل لولا أن منعه خجله..... "آه يا خجلي....."
انتهى المغسّل بعد عناء.... وربط الجثمان بالأشرطة في أعلى وأسفل وعند الجذع والصدر...... بعد أن لف الرقبة والجراح بالقطن والمسحوق.... وجعل فوق الجرح كيسًا من البلاستيك.....
"هل سينزعونه في القبر يا أبتِ....."
"يقولون إن التربي سيفعل هذا..... الأمر يستوي في النهاية يا بني......."
احتمل الموظفون الجثمان إلى عربة الإسعاف.... وفيها تشاطر العم الرحلة الأخيرة مع دعوات سعد وأبيه وابن عمه.....
تألموا كثيرًا....
وأخذ سعد يتأمل جرأته...."أنا غسلت عمي بشحمه ولحمه؟!.... أنا؟!".... وشعر إن أخاه الذي بكى عمه كثيرا على أنه لم ير عمه بله أن يغسله ويكفنه... شعر إن أخاه أصدق منه.... وإن حزنه كذب لأجل المعزّين.....
دفن العم في مقبرة ريفية فوق الأرض... وتحت أشجار الكافور القديمة راح سعد يتلقى العزاء عابسًا تمامًا ككل أهالي الموتى في الأرض.... ثم عاد في أهله إلى دار الجد القديمة...
كانت العمة العجوز في الدار تبكي.... فابتدرها أبو سعد:
"هيا... إلى دارك... هيا.. نحن لا نبكي!...."
وأعادوا العمّة العجوز إلى دارها لئلا ينكسر قلبها وتكسر قلوب أولاد العم على أبيهم أكثر....
عاضد سعد عمته على السلّم هو وابن عمته الشيخ.... وأخذت العمة تقول:
"أين أصحابك يا دار؟"
فقال سعد ببرود:
"في التي هي أحسن منها يا عمة -إن شاء الله-!"
شعور بارد تغشّى سعدًا.... "هل هكذا يكون الحزن على الأموات؟!... "
عاد إلى سكنه في الليل وأكل بنهم.... وكفر نفسه الجاحدة القاسية.....
إن سعدا سلك مع نفسه حيلة لا شعورية أنكر فيها موت عمه.... وراح يغسله وهو يرجئ إجابة السؤال إلى أجل غير مسمى "هل هذا الجثمان حقا عمي؟"... وأرجأ الجواب في الليل وراح يذاكر.....
وفي الليلة التالية كان سعد ينشج في الشرفة ويحبّ عمه كما لم يحببه من قبل....
"آه يا عمي يا عمي يا عمي يا حبيبي يا عمي الله يرحمك......."
انتهى.