بسم الله الرحمن الرحيم
أنهيتُ للتوّ حلقة من برنامج القاهرة - برلين الذي تقدّمه سحر ناجي وتستضيف فيه شبابا من البلدين.... ناقشت الحلقة موضوع المرأة ما بعد الزواج: هل تعمل خارج المنزل .... هل تعمل في المنزل؟
كانت لديّ إجابات جد كثيرة..... أنا -الآن- أستطيع أن أميّز بين حركات تحرير المرأة من ناحية والحركات النسوية (فيمينيست) أو حركات التمركز حول الأنثى -كما يسميها الدكتور المسيري- من ناحية أخرى........
بعد أن كافحتْ حركات التحرير الأوربية خلال قرنين من الزمان من أجل إيجاد مكانة طيّبة للمرأة في المجتمع..... تجيء حركات النسوية لتعزل المرأة مجتمعيا....... هي على أية حال لا تعزلها.... لأنها ستلتهم ذاتها..... لأنها ستبدأ بالتعاطف مع المرأة كيانًا متميّزًا مظلومًا من التاريخ الذكوري والمجتمع الذكوري..... وتنتهي بتجاهل تميّزها الجسدي والنفسي وتسويها تماما بالرجل.... ما يسوّغ الرضاء بالثنائية الجنسية واعتبار الزواج مجرد أسطورة شعبية -كما يقول فرويد-......
يحكي لنا الدكتور المسيري تاريخ تطوّر البشرية.... من واحدية إنسانية تلتفّ حول الجنس البشري بوصفه مركزًا للكون...... وهنا الحديث عن الإنسانية جمعاء..... حيث يكتسب الإنسان تميزه من بعد ما ورائيّ (ممّا وراء الطبيعة)..... ثم واحدية إمبريالية تفضّل جنسا على الآخرين تماما كما صنع الرجل الأبيض.....
بظهور الداروينية وجحد تميّز الإنسان على الطبيعة.... واعتباره حيوانًا أو ابنا للحيوان يجري على سننه في التصارع والانتخاب..... وظهور جبريّات فرويدية وماركسية وداروينية وسلوكية وجينية..... ظهرتْ الطبيعة كندّ للإنسان في ثنائية صلبة....... ما لبثت أن تحوّلت إلى واحدية صلبة تتخذ الطبيعة مركزًا يدور الإنسان في فلكه..... وصار (سيد الكون) خاضعًا لسنّة كونيّة يسمّيها الماركسيون مادية جدلية ويسميها الداروينيون انتخابًا طبيعيًا ويسميها الغرب الحديث تقدّما.....
في النهاية تجيء الواحدية السائلة التي تلغي المركز.... حيث يكون النسبي مطلقا..... ويكون الثابت هو الصيرورة (دوام التبدل من حال إلى حال)..... وتسقط كل القيم التي تنبني على المطلقات (تنبني الأخلاق كالصدق والكذب على المطلق... بينما يكون الجمال والقبح نسبيا).... ويصبح الشيء معيار ذاته دون النظر إلى أي أخلاقيات.... ويكون عمل المرأة سكرتيرة أو مندوبة أفضل من عملها في المنزل.... لأن الأول يحقق ربحا ماديا وإن كان الأخير يصنع إنسانا مطواعا للاجتماع..... لأن الأخير لا يخضع لمعايير مادية.... ولم يعد غريبا أن نسمع المرأة -التي تعمل في بيتها إذا سئلت عن إذا ما كانت تعمل- تقول:"أنا لا أعمل"........
هذا الذي تحدثت عنه يمثل مرحلة ما بعد الحداثة....
"إذا كانت النسوية هي النظرية...... فالسحاق هو التطبيق" !
هذه ترجمة عبارة ناشطة نسوية.... وليس ذلك غريبًا على أناس يعزلون المرأة -تماما كما يصنعون الآن باليهود الموضوعين في كفة مقابل البشرية في الكفة الأخرى-..... ويرون إن التاريخ كله كان ذكوريا يغمط المرأة حقها..... فغيّروا التاريخ بداية من اسمه history أي his story إلى her story :).... وانتهاء إلى الذات الإلهية التي يعبّر عنها في طبعات حديثة من الكتب المقدسة بلفظة he/she بل he/she/it !
يمكن أن نستعرض نوال السعداوي نموذجًا للنسويات العربيات.....
نوال السعداوي لا يرضيها أن نعبر عن الله عز وجل بصيغة المذكر..... تعالى الله عن كل هذا.... فالله ليس ذكرا ولا أنثى.... ولا يتخذ الصاحبة... ولكن اللغة تقصر عن مثل هذا..... ولايرضيها الاعتقاد في الله بأي صورة حتى ولا الصورة الإسلامية (التي تصور الله منحازًا ضد المرأة)..... ثم لا يرضيها التاريخ الذي ظلم المرأة من مصر القديمة إلى اليوم....... وترى أن اللحظات المضيئة هي تلك التي اتخذ الناس فيها إلها مؤنثا: السماء على حساب الأرض مثلا!....... ترفض السعداوي فكرة الزواج القائم على المهر... وترى أن المهر لا يختلف عن أجرة البغيّ في شيء!..... وتشجع زواج المسيار والزواج العرفي..... وكلنا يعرف ما جناه الأخير على العذراوات.... وعلى اللقطاء.... وإلا فالسعداوي لا تعترف بالبكارة ولا العذرية..... ولا يعجبها تعدد الزوجات....... بل تبارك تعدد الأزواج إذا كان الزوج عقيما مريضا!..... وتحمل في رأسها عقدة خطيئة حواء التي ورثت النساء كلهن لعنة -كما تقول اليهودية- وورثت البشر أجمعين اللعنة التي استحقت (صلب المسيح ابن الرب) -حسب النصرانية-.... ويسميها الإسلام زلّة.... ولكن أكثر الناس لا يعلمون,..... ويجعل آدم وحواء شريكين فيها واستحقا الهبوط إلى الأرض لأجلها........
إلى أين أيتها النسوية؟
إلى النساء (الشجاعات) اللاتي عزفن عن الزواج بالمرة.... كما تقول السعداوي....
إلى عزل المرأة عن مجتمعها........ أن تعصب المرأة عينيها وتُعْمِل السيف في كل ما حولها.......
ولا عجب..... فهذا دأب المجتمع الليبرالي الذرّي... الذي يرى المجتمع مجموع أفراد....... وليس هذا صحيحا لأن الجسد ليس مجموع خلايا بهذا المعني المجرد..... بل الخلايا تشكل أنسجة فأعضاء فأجهزة فجسدًا........ ولا تقوم الخلية بما يقوم به الجسد.... تتحدد حقوق الخلية في جملة حقوق الجسد وصلاحياته..... لكن الليبرالية تنسى هذا... وتدافع عن حقوق الأقليات (الشواذ ومدمني المخدرات والمعاقين.....) لا لأنها أقليات تستحق منا الأسف والسعي لأجل ضمها إلى المنظومة المجتمعية..... بل إن الليبرالية تنكر كلمة الأكثرية..... وتريد أن تسبغ الشرعية على ما يفعله أولئك الناس...... ولم ولن يسوغ لمجتمع أن يعطي الصلاحية لكل الأقليات.... حتى المجتمع الديمقراطي نفسه الذي يغلب رأي الأغلبية على الأقلية.....
إنهم يريدونها غابة يفعل فيها من يشاء ما يشاء.......
يريدونها انحلالا.... تتحلل المرأة من حجابها وعفتها.... ويتحلل الرجل من مسئوليته تجاه زوجته وأولاده.....
مجتمع اليوم جزريّ..... كل إنسان انطوى على ذاته يكبر حقها وينسى واجبها..... كل منا ينمو داخل حاوية..... كل منا يعدّ ذاته لأجل المتربصين..... نحن اليوم في غابة داروين..... ماتت فينا أفكار الإنسانية والإخاء والمساواة..... ماتت فيهم أولا....... ماتت في غزاة العراق وأفغانستان وصناع اليورانيوم المنضب والمخصب الذين يبيحون كل شيء في الحب والحرب... ولو كان دم الأطفال وشرف النساء.............
أعتذر عن تعقد الألفاظ في النهاية........ وأشكر لكم سعة الصدر........ والله يحميكم.......