المحرر موضوع: عن كتاب "دستور الأخلاق في القرآن" -محمد عبد الله دراز-  (زيارة 32121 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
ب-) الأساس القانوني للمسؤولية :

**لا يُحاسًب الإنسان حتى يُعلَم بالأحكام، وعلمه بها يكون من طريقين، داخلي وخارجي، أما الطريق الداخلي فهو الفطرة التي تدرك القانون الأخلاقي بصفة عامة، شاملة غير محددة أو مفصلة، باستشارة العقل واستبطان القلب واتباع الغرائز الخيّرة. وأما الخارجي فمن الوحي.

 emo (16):فهل يكفي هذا لإقرار مسؤوليتنا عند الله ؟؟


المعتزلة يقرّون ذلك، والماتريدية يقرّونه جزئيا ، وأكثر مدارس السنّة ينكرونه بناء على حرفيّة قوله تعالى : "وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّىٰ يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" -التوبة:115-
"وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا" -الإسراء: من الآية 15-    "وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا ۚ"-القصص:59-

 emo (16):هنا يأتي السؤال: لماذا جعل الله الرسل وسائط ؟ 
لماذا لم يترك الإنسان لنوره الفطري ؟


ويجيب الله تعالى على هذا بقوله : "رُسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا" -النساء:165-

 emo (16):ويكون السؤال هل يكفي أن يكون القانون موجودا لتثبت مسؤولية حتى الجاهل ؟؟

وهنا يكون ذا مسؤولية من علم بالأمر، وليس من غفل عنه . يقول صلى الله عليه وسلم : "رُفِع القلمُ عن ثلاثةٍ : عن النَّائمِ حتَّى يستيقظَ ، وعن الصَّبيِّ حتَّى يشِبَّ وعن المعتوهِ حتَّى يعقِلَ" -المحدث : البخاري-

وكذلك لا يكفي وجود القانون، بل يجب تبليغه بالتربية، بالدعوة بالبحث الفردي ... : "أُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ" -الأنعام: من الآية 19-

 emo (16):وعند النسيان أين المسؤولية في عدالة مطلقة قائمة على علم بالواقع ؟

هنا عندما أُلهِم الصحابة الدعاء : "ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا" أضاف الرسول صلى الله عليه وسلم : "قال الله : قد فعلت".

ونكمل لاحقا بإذن الله  emo (30):

« آخر تحرير: 2018-02-21, 14:55:43 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
والآن مع الشرط الثالث من شروط المسؤولية بعدما تعرفنا على "الطابع الشخصي المحض" ثم على "ضرورة المعرفة بالأساس القانوني" وهو :

ج-) العنصر الجوهري في العمل :


**ما عرفناه في الأساس القانوني كانت له علاقة بالمعرفة ، أما هذا الشرط فله علاقة بالإرادة، بحيث أن العمل اللاإرادي يُستبعد تماما من مجال المسؤولية، إذ أن انحراف الإرادة ببراءة عن القانون لا يقع تحت طائلة القانون .

** العمل الإرادي الذي تنعقد عليه النية وحده هو الذي يستتبع مسؤوليتنا . بمعنى أنه يجب أن يكون متصوَّرا من طرف صاحبه بنفس الطريقة التي تصوّره بها المشرّع.

** لا وجود لمعنى طاعة أو معصية إلا إذا حدث توافق بين العمل محرّما كان أو واجبا وبين ذاته باعتباره حدث فعلا .

دراز هنا يحلل ويفصّل عن الخطأ وعن النية التي ترافق العمل، وهذا ما يعنيه بـ : "العنصري الجوهري للعمل" ... والخطأ على أنواع . يذكر منها مثلا الخطأ الذي يكون له علاقة بالقانون الأخلاقي ذاته لا بالعمل، بمعنى أن يعمل الإنسان عملا وهو يميل إلى وجهة نظره لا إلى حقيقة حكم العمل، ولكنه بالمقابل لا يرى في ما يفعل خروجا عن القانون، بل يرى نفسه موافقا له، بل هو مقتنع بموافقته له، ويستشهد دراز هنا بحديث الصحابي الذي قتل الذي قال لا إله إلا الله، وأجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه إنما قتله لأنه قالها خوفا لا حقيقة، وهنا يرد عليه صلى الله عليه وسلم غاضبا : "هل شققت عن صدره ؟! "

وهذا ما يُسمى "العَمد بشبهة" أو "التأويل بشبهة" ... بحيث يتتبعون تأويله فإن كان تأويلا قريبا لم يدينوه، وإن كان بعيدا أدانوه ...

وهذا يعلّق عليه دراز بأنه التجريد الذي يُبعد دور الأصالة الفردية عن الحكم على العمل، ويبعد حقيقة ما عليه الشخص بالتركيز على علاقة الخطأ بالقانون . وهنا القرآن يقول : "رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ ۚ إِن تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا" -الإسراء: 25-

أضع فيما يلي كلاما دقيقا لدراز حول جوهر العمل :

يذكر دراز في هذا المضمار نظرية لكانْت يُرى ظاهريا أنها تشبه القول بجوهر العمل : (إن الشيء الوحيد في العالم الذي هو خير في ذاته هو الإرادة الطيبة)

ثم ينتقدها لا من باب أنها تسحب حالة خاصة على الضمير الإنساني برمّته وحسب، بل من باب أن القول بها يعني أن أي عمل مهما بدا غريبا وسيئا ومستهجنا فلا حرج فيه ما دامت الإرادة التي سبقته طيبة ... كما أنها تلغي التفاوت في القيمة الأخلاقية، بحيث أن هذا يساوي بين الجاهل ذي النية الحسنة وبين أكثر الناس حكمة، لا فرق بينهما... ! وهذا ما يذكرنا بمنطلقات كانْت التجريدية حتى النخاع، وهو يرى للواجب وحدة لا تتنوع، لا ترى للمحسوس والواقع والتفاوت والاختلاف والاستثناء .

يقول دراز بموافقة كانْت في أن أسوء الأعمال لا يستتبع مسؤولية إذا كان عن عدم تعمد لمخالفة القانون، ولكن شتان بين هذا وبين القول بتجريد كانْت وتعميمه أن أكثر الأعمال ضلالا مع النية الحسنة تصبح له قيمة أخلاقية ويصبح قدوة للسلوك الأخلاقي . وفي توضيح أكبر وأدق يقول دراز :

(إن النيّة شرط ضروري للأخلاقية، وهي على ذلك شرط للمسؤولية، ولكنها ليست بأي حال شرطا لهذه أو تلك .)

والإسلام يجعلها شرطا للعمل، ولا يجعلها ممتصا لقيمة العمل كله .



ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
ومع هذا الكتاب دائما ... الدسم حقا حقا ...  emo (30):  أجد نفسي معه في تحدّ دائم، أن أفهم ما يُراد على حقيقته ... حديثه فلسفيّ عميق يستدعي جلسات قهوة وشاي وكل منبّه ...  ::)smile:

عميق عميق ... قد تكون عارفا بالمعنى الذي يُريد، ولكنه لا يكتفي بكينونته، بل يأخذك إلى منشئه  emo (30):

نواصل معه .... وقد بلغتُ حتى الساعة الشرط الرابع من شروط المسؤولية، وكنا قد عرفنا ثلاثة : الطابع الشخصي، الأساس القانوني، جوهر العمل .

د- الحريـــــــــــــــــــــة :

المسؤولية لا تكفيها المعرفة والإرادة والبصيرة بأمرها إن لم تكن الإرادة الحرة هي المتدخل .

**تلاطمت أمواج الفلاسفة حول الحرية، فمِن قائل أن الإنسان منه صنفان خيّر وشرير بالولادة، فالخيّر يولد بالإنسانية، والشرير يولد بالأنانية ...
فقال "كانْت" كعادته بالتجريد، فرأى الحرية والمسؤولية في عالم مجهول لا في عالم الواقع، بينما قالها "هُومْ " صراحة أن الحرية ما هي إلا وهم.

** الإرادة لها دوافعها في الحقيقة، فهي غير مستقلة عن كياننا . إذ أنّ لكل عمل شعوري إرادي علّة .

** فرق بين حرية التقرير وحرية التنفيذ . والذي نريده هو حرية التقرير.

** جمهور السنة والمعتزلة على أننا لا يمكن أن نختار أمرا بين نقيضَين اختيارا نهائيا إلا إذا كانت له علة خاصة تقتضيه اقتضاء تاما يجعل من المستحيل اختيار النقيض، وإلا ظل المُختار في حالة الإمكان دون أن يبلغ درجة الفعل.

** المعتزلة يرون أن الاختيار لا يخضع لأي علة، بل يخضع فقط لذاته دون أي أمر من خارجه، وهذا ما لا يُستساغ في القانون الإسلامي، ففي الأخلاق الإرادة مانعة، بمعنى أنها إيجابية وسلبية في آن، أن أرغب في هذا تعني ألا أرغب في ذاك، وبالتالي هناك باعث (واجب) (منفعة).

** الاختيار تناسب بين الإجراء والهدف، أي أن الإرادة هي السعي وراء الغاية، دافع يحرك النشاط نحو غاية.

** كثير من الفلاسفلة أيضا يرون أن الإرادة تنبثق من الطبع، والطبع مفروض مقدور، ولا مناص من الانصياع له ... وبالتالي فالتنبؤ بالإرادة ممكن ووارد جدا، بينما القرآن يقرر : "ومَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا ۖ" -لقمان : من الآية 34-

** هناك فكرة تؤدي إلى نتيجة، واتجاه يؤدي إلى رغبة، وعاطفة تؤدي إلى حالة للنفس مناسبة. وهذا كلّه حدث مركّب ليس الإرادة على التحديد، وأقرب الحالات إلى الإرادة هي "الرغبة" .

**  يقول دراز : (إن الإرادة ليس معناها أن نصوغ طلبا بل أن نصدر مرسوما، إنها لا تعني أن نمدّ يد سائل، بل أن نتقدم بخطوة فاتح، والإرادة ليست امتدادا لسلسلة في سلسلة مُعطاة، بل هي بدء سلسلة أخرى ينبغي أن تُعطى )

ونكمل حول حرية الإرادة لاحقا بإذن الله  emo (30):
« آخر تحرير: 2018-02-24, 09:26:24 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
أواصل حول عنصر "الحرية" ضمن شروط المسؤولية حسب النظرية الأخلاقية القرآنية ...

وحتى وصلنا إلى مفهوم تدخل "الذات الكلية" لتكوين الإرادة، عرفنا التالي :

** هناك فكرة تؤدي إلى نتيجة، واتجاه يؤدي إلى رغبة، وعاطفة تؤدي إلى حالة للنفس مناسبة. وهذا كلّه حدث مركّب ليس الإرادة على التحديد، وأقرب الحالات إلى الإرادة هي "الرغبة" .

**  يقول دراز : (إن الإرادة ليس معناها أن نصوغ طلبا بل أن نصدر مرسوما، إنها لا تعني أن نمدّ يد سائل، بل أن نتقدم بخطوة فاتح، والإرادة ليست امتدادا لسلسلة في سلسلة مُعطاة، بل هي بدء سلسلة أخرى ينبغي أن تُعطى )

ولكي يبقى عمل الإرادة في واحد من الممكنات التي تعرض في عالم الممكن يجب تدخل الذات الكلية بنشاطها التركيبي لتصدر حكمها النهائي.

** الحرية حريتان :
1- حرية أولى: وهي القدرة على اختيار أحد النقيضَين .
2- حرية ثانية: هي حسن استعمال الحرية الأولى، الاستعمال الحسن لاختيار أحد النقيضين، وهي تكمن في التخلي النهائي عن الشر، وهي ليست حرية الخلاص بل الحرية التي تشترط مسؤولية. وبتحديد أكبر هي حرية اختيار الخير في ظروف تنزَع لصالح الشر، أو اختيار الشر في ظروف تنزَع للخير .

**  هنا يجب أن نعترف أن ليس لكل الناس القدرة ذاتها على فعل الخير أو الشر، بل القدرات متفاوتة، والإرادة لها ميل إلى الخير المحسوس العاجل على الروحي الآجل. ذلك أنها تجد صعوبة في متابعة أوامر العقل أكثر مما تجده في السير وراء الميول الفطرية والعادات الموروثة أو المكتسبة، بمعنى إيثارها الكسل على النشاط العقلي .

طيب لنا هنا وقفة مهمة مع ما أورده دراز، نظرية ليبنيز القائلة بــ : (أليس قانونا شاملا أنّ كل قوة تعمل حيث تجد مزيدا من اليسر وقليلا من المقاومة؟ فلماذا تريدون أن تجعلوا من القوة الأخلاقية استثناء من القاعدة ؟ )

هنا ....... عندما تقاوم الذات فهي تستدعي احتياطاتها القوية، كأن تستدعي الفكر، التعليل العقلي لتخفيف ثقل الغريزة أو العادة . فالقرار الأخلاقي يصدر بجهد مقاومة جديد.
والإرادة إزاء موروثاتنا ومكتسباتنا كمثل النائم الذي يوقظه منبّه، فهو بين ثلاثة احتمالات : (يجب أن أبقى مرتاحا) و (أتمنى الاستيقاظ ولكنني لا أستطيع أن أعزم) و (يجب أن أنهض) ...

وهذا ما يجسده حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يَعقِدُ الشَّيطانُ عَلى قافيَةِ رأسِ أَحدِكُم إذا هوَ نام ثَلاثَ عُقدٍ، يَضرِبُ كلَّ عُقدةٍ مَكانَها: عليكَ ليلٌ طويلٌ فارقُدْ، فإنِ استَيقظَ فذَكَر اللهَ انحلَّت عُقدةٌ، فإن تَوضَّأ انحلَّت عُقدةٌ، فإن صلَّى انحلَّت عُقدُه كلُّها، فأَصبحَ نَشيطًا طيِّبَ النَّفسِ، وإلَّا أَصبحَ خَبيثَ النَّفسِ كَسلانَ."-صحيح البخاري-

فالإرادة في غمار عملها وأمام التحدي قادرة على المقاومة، كما نعرف من ذلك تضحيات الشهيد مثلا الذي يقدم أنفس ما يملك، يقدم نفسه.

وسنعرض في المداخلة المقبلة إلى موقف القرآن ...
« آخر تحرير: 2018-02-25, 13:56:38 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
موقف القرآن من الإرادة وحريتها

يقرر القرآن في هذه القضية مجموعة من الأمور :

 emo (16): غيبية أفعالنا المستقبلة : " وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا" -لقمان: من الآية 3-
 emo (16): قدرة الإنسان على تحسين أو إفساد كيانه: "قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا(9)وقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا(10)" -الشمس-

 emo (16): عجز كل مثير عن ممارسة إكراه واقعي على قراراتنا، مهما بلغ المثير من حكمة أو من شطط : " وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم ۖ" -إبراهيم:22-
 emo (16): الإدانة القرآنية القاسية لما ينشأ عن الهوى : "وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ۚ"-الأعراف:179-   "إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ(69)هُمْ عَلَىٰ آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ(70)"-الصافات-

ولكن رغم هذا التشدد في حكم المسؤولية، يحدث التجاوز والعفو في حال وجود إكراه مادي داخليا كان أو خارجيا من مثل :
* كفر مؤمن مضطر : "من كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ"-النحل:106-
* أكل الحرام لضرورة : "فمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ ۙ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ"-المائدة: من الآية3-
* الإكراه على الفاحشة: "وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" -النور: من الآية33-

أما القتل والسرقة وهتك العرض فهي جرائم لا تقبل العفو .

والسؤال:  كيف يجبّ الإكراه الماديّ الفواحش كالزنا والكفر، بينما لا يجبّ الإكراه النفسانيّ الأفعال الأخرى ؟

يجيب دراز بما معناه أنّ الإكراه المادي خارج منه أي دور وأدنى مشاركة من الذات، بينما العاطفة والعادة تشدان إليهما الإرادة دون مناقشة، والخلاصة أنّ الحياة تحت الإكراه المادي تُعرّض للخطر، ومن ثمّ كان حفظ الحياة مطلبا غرائزيا، ومطلبا شرعيا في آن، وإذن فإن الذي يخلّ بواجب خضوعا لضرورة حيوية، يؤدي واجبا آخر أهميته تكمن في أنه شرط لجميع الواجبات.

وبالمقابل، فإنّ الذي يأكل الحرام اضطرارا، فيُعفى عنه ليس امتدادا مثلا إلى أن يقتل إنسانا ليقتات منه، أو مثلا الإنسان الذي يُجبَر عى أن يقتل وإلا قٌتل كذلك ... هذه لا تدخل تحت أي طائلة للعفو.

نلاحظ مما سبق أن الإرادة في الإسلام، في القرآن حرّة مستقلة ... وهذا ما يجرنا إلى سؤال بالغ الأهمية، إلى جدل قديم حديث ... ماذا عن دور القضاء الإلهي ؟

*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*

هنا سنبدأ مع دراز ببعض التعريفات المهمة التي خاضت فيها فِرق إسلامية مختلفة ...

1- القدريّة :   في خلاصة القدرية يقولون بإلغاء كل إرادة للإنسان، وهي في حقيقتها العلم المسبق من الله تعالى الذي خلق القِوى ويعلم كيف ستعمل، بما فيها الإرادة، فهل يتدخل الله في القِوى عندما توضع في إطلار حركتها ؟

أ-) كانت البدايات مع قصة "معبد" الذي جاء في عهد عبد الملك بن مروان بالنظرية المتطرفة حول الحرية الإنسانية، فأُعدِم .
ب-) ظهور المعتزلة في القرن الثاني للهجرة، وهم كانوا ضد القدرية، هم يقرون أن الله تعالى يعلم كيف سيستخدم الإنسان ملكاته وقدراته التي أودعها فيه، ولكنه يتركه يفعل تحت مسؤوليته، وقد اعترض عليهم القدرية بقيادة جهم بن صفوان، إذ هم يرون أن الإرادي لا يختلف عن اللاإرادي إلا ظاهريا وإلا فالإنسان بقولهم عاجز عن أن ينشئ أقل حركة، فهو ريشة تصرّفها الريح.

وكل من المعتزلة والقدريّة متشددون في الإسلام .

**والقول في هذا أنّ الله تعالى هو العدل الذي لا يظلم : "إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ۖ " -النساء: من الآية40-
فهو سبحانه الذي أقرّ شريعة ملزِمة بمسؤولية وجزاء بعدها، لم يكن من عدله أن يترك الإنسان دون أدوات تمكّنه من أداء أعماله . ولكن هناك من قال بالاستثناء في فعل الإنسان، مما يقابله إما إلغاء الإرادة الإنسانية بالكلية أو التحديد مجال الإرادة الإلهية. وهنا المشكلة .
** مدارس السنّة قالوا أنّ الالإرادتَين الإلهية والإنسانية تعملان في الوقت نفسه وتشتركان في إنتاج أفعالنا، ففعل الله فعل خالق، بينما الإنسان يتفتح للفعل الإلهي .

والسؤال هنا : من يتدخل في حركاتنا الإرادية نحن دون تدخل من الله تعالى، أم الله تعالى دون تدخل منا ؟

هناك من قال أنه الله تعالى مع تدخل إرادتنا ... وهنا ينشأ سؤال آخر : من يدبّر إرادتنا أصلا ؟ وقد انقسموا في ذلك إلى قسمَين طائفة بقيادة أبي الحسن الأشعري وأخرى بقيادة أبي منصور الماتريدي ...

وأتوقف هنا.... لأكمل لاحقا بإذن الله ...وإني مع موضوع مما أحب فعلا ...  emo (30): موضوع الإرادة وحريتها، والإرادة الإلهية والإرادة الإنسانية وكيفية عملهما ...

« آخر تحرير: 2018-02-26, 08:43:54 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
إذن نحن الآن مع الكتاب، وتحت فصل "المسؤولية"، وتحديدا تحت شرط "الحرية" التي هي من شروط المسؤولية في الإسلام ... نحن الآن مع الإرادة ونقاشاتها الرّحبة جدا  emo (30):

الإرادة الإلهية والإرادة الإنسانية، وهل أفعال إرادتنا من محض تدخلنا دون أي تدخل للإرادة الإلهية، أم أنها من محض الإرادة الإلهية دون أدنى تدخل للإرادة الإنسانية ؟ فكان الجواب أنها من الله تعالى مع تدخل إرادتنا، الإرادتان تعملان معا في الوقت ذاته، وجاء السؤال : من يدبر إرادتنا أصلا ؟

فانقسم المجيبون إلى قسمَين، قسم بقيادة أبي حسن الأشعري يقول بسبق القضاء، وقسم بقيادة الماتريدي يخاصم الأشعري ..

فلنرَ ...

بينما يشير القرآن إلى القدرة الإنسانية الذاتية على التحول من خير إلى شر، أو من شر إلى خير، نجد فيه بالمقابل إلى ما يشير إلى أن الإرادة الإنسانية ليست إلا أداة في يد الله تعالى، هي لِجام يقودنا به الله كما يشاء : "كذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" -الأنعام : من الآية108-
"فمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ۖ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ۚ" -الأنعام:125-
"وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا"-الإنسان:30-    " وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ"-الأنفال:21-

فماذا يكون كحاصل؟؟ أو كيف يكون الفهم السويّ وِفق هذا ... وفق آيات تبين استقلالية الإرادة الإنسانية، وآيات تبين طلاقة قياد الإرادة الإلهية  لها ... إنه التركيب

مع ما ذكر الله تعالى، فهو سبحانه يقول أيضا : " إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ" -الرعد:11-
أن الله يحكم إرادتنا لا يعني ذلك إبراء ساحتنا ... الله سبحانه لا يفعل ذلك ابتداء مطلقا بل كنوع من الإجراء المقابل، أي ردا على ما يكون من جانبنا . وبالتالي فممارساتنا نعم محكومة بقوة فوق الطبيعة ولكنّ سوابقها تصدر عن إرادتنا .

نحن الذين نبدأ إن إلى خير أو إلى شر :

** "وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ" -الزخرف:36-
**  "كلَّا ۖ بَلْ ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ" -المطففين:14-
** " وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِوَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ"-الأعراف : من الآية 176-

لنتأمل : وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا --------> وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ.

الطرف الأول إرادة الله تعالى والتي تكون تبعا لما يكون من إرادة الإنسان... إجراء مقابل

إذن فحسب القرآن :

1- استقلال كامل لإرادتنا مقابل ظواهر الطبيعة .

2- أما في النظام المعقول فهناك تبعية للإرادة الإلهية من حيث :

**  فاعلية الإرادة للوصول إلى الغاية، يبدأ الإنسان، والله تعالى هو الموفّق، من مثل الزوج الذي يضع نطفته في زوجته، من ذا يتمّها إنسانا ؟ "أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ(58)أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ(59)" -الواقعة-

أكمل لاحقا بإذن الله .

ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل جواد

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 254
  • الجنس: ذكر
موضوع الإرادة قوي للغاية، وهو من المواضيع التي يحدث حولها جدال كثير.
و هناك ثلاثة أمور أساسية:

1- أن الله عدل لا يظلم أحدا.
2- أن الله سبحانه وتعالى يعلم الغيب.
3- أن الإنسان لا يستطيع أن يوجد الفاعلية بنفسه.

إذا وضعنا هذه الأمور سويا، سنجد أن الإرادة أشبه بالطاقة للمحرك، فالمحرك لا يستطيع أن يعمل بدون الطاقة ولا يستطيع أن يولد هذه الطاقة من تلقاء نفسه، وتأتيه هذه الطاقة من الله سبحانه وتعالى، فإذا ما حصل عليها يكون للإنسان الخيار في استخدامها للخير أو الشر.

الفرضيات بعد ذلك ستدور في فلك النقاط الثلاثة الرئيسية، وأحسب أن ذلك هو تفسير آخر للقول:

** مدارس السنّة قالوا أنّ الالإرادتَين الإلهية والإنسانية تعملان في الوقت نفسه وتشتركان في إنتاج أفعالنا، ففعل الله فعل خالق، بينما الإنسان يتفتح للفعل الإلهي .

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
أهلا بمتابعتك أخي جواد على هذا الموضوع الذي جعلته لفهم الكتاب خطوة بخطوة وهو من الدسامة بمكان..  emo (30):

نعم مثال الطاقة والمحرك جيد جدا .. وفي الحقيقة مازال دراز يتشعب في موضوع الإرادة الدقيق.. وسأضع قريبا بإذن الله طرحه لحيثيات وتساؤلات حولها...

ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
إذن فحسب القرآن :

1- استقلال كامل لإرادتنا مقابل ظواهر الطبيعة .

2- أما في النظام المعقول فهناك تبعية للإرادة الإلهية من حيث :

أ-) في إطار فاعلية الإرادة :

**  فاعلية الإرادة للوصول إلى الغاية، يبدأ الإنسان، والله تعالى هو الموفّق، من مثل الزوج الذي يضع نطفته في زوجته، من ذا يتمّها إنسانا ؟ "أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ(58)أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ(59)" -الواقعة-

** يزرع الإنسان، ولكنه ليس هو الذي يجعل للنبات صفته ونوعه وقوامه وشكله وطعمه ولا نتيجته الأخيرة : أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ (63)أأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ(64) -الواقعة-

ب-) في حيّز القوة كملكة اختيار :
كملكة اختيار الإرادة الإنسانية تخضع للسلطان الفعل الخالق الأولي  .

وأنقل ها هنا قول دراز : (إن وحدة الكون تتطلب وحدة التدبير، وتبرهن عليها، ولن يأذن الله لمخلوقه أن ينقلب ضده، فكل ما يجري على عينه خاضع لرقابته. ولئن كان الشر الأخلاقي لا يتفق مع إرادته التشريعية، فما كان له أن يقف في وجه إرادته الخالقة، فيجب إذن على الأقل ألا يصادف عمل إرادتنا عائقا فوق الطبيعة، أي أنه يجب أن يحصل من السماءعلى نوع من الإجازة والرضا، وذلك هو ما تفيده الآية الكريمة : "وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ" –الأنعام: من الآية 137- والآية : "وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا"-الإنسان: 30- وهذا الكلام لا ينازع فيه أي إنسان يؤمن بوجود عناية إلهية)

لنتأمل :
"وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ"-----> لا يفعل إلا بإذن من الله وإرادة منه.
"وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا" -----> لا ينازع الله أحد في أمره ولا ينقلب مخلوقه ضده.

ج-) في حيّز القوة كملكة اختيارجهاز القرار(الاختيار) المودَع في الإنسان :

الله سبحانه أودعنا هذا الجهاز المكوّن من العقل، الحواس، النزعات، الجاذبية الحسيّة، القيم الروحية، الضمير

بعد هذا، هناك سؤال بالغ الأهمية يطرحه دراز :
في مجال الاختيار، ألا توجد مساعدة خاصة من الله لعباده الصالحين مكمّلة لاختيارهم الحسن  أم أن هناك مساواة ؟

أهل السنة يثبتون ذلك، بينما ينفيه المعتزلة والشيعة .  يقولون أنه لا يتفق مع العدالة الإلهية، إذ ذلك في وسع كل فرد تحت مسؤوليته، هناك حد أدنى من القدرة الإنسانية موزع على السواء ....

وبالمقابل ... نقول : هل يصبح القول بهذا ضد البداهة التي تفرض أن الخالق لم يعطِ لكل إنسان القدرة نفسها على فعل الخير ؟

الصفات الوراثية مثلا لها آثار مختلفة على أحكامنا وقراراتنا، وذلك ما يُفهم من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تجِدونَ النَّاسَ معادِنَ ، خيارُهم في الجاهليَّةِ خيارُهم في الإسلامِ إذا فقُهوا" -صحيح البخاري- وذا قوله صلى الله عليه وسلم لأشج عبد قيس : "إن فيكَ خصلتينِ يحبهُما اللهُ : الحلمُ والأناةُ" -صحيح مسلم-

ولكن القرآن عموما يصنف الناس إلى فئتين ضالين ومهتدين : "بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ"-الحجرات: من الآية 17-
"ومَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ۚ" -المائدة: من الآية 41-

ولنرَ شيئا من هذه الخصوصية لعباد الله المؤمنين :



لذلك عرفت الأنفس الكبيرة أن كل تحسن وكل انتقال من حسن إلى أحسن ما هو إلا من فضل الله، فهي تلجأ إليه لتوفيقها، ولتثبيتها . فهي تثق بالله تعالى أكثر من ثقتها بقواها. وهذه أمثلة :


وعلى هذه الصورة حاولت تبيين حجج أهل السنة بخصوصية البعض في التوجيه إلى الخير :

« آخر تحرير: 2018-03-04, 09:51:50 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
ودائما في مجال حرية اتخاذ القرار، وفي مجال الإرادة الإنسانية وعلاقتها بالإرادة الإلهية ...

يقول دراز ما ملخصه : (ليس بسبب أن الله قد أراد لنا أن نريد هذا أو ذاك أننا قد أردناه في واقع الأمر، لأننا لا نقصد مطلقا أثناء عملنا إلى أن يتخذنا الله سبحانه أداة لإنجاز إرادته المقدسة، ما دمنا لا ندري شيئا عن هذه الإرادة الإلهية .)

**ما فهمته من هذا، أن التساؤل حول حقيقة حرية إرادتنا من وهمها، وحول غرابة القرار المتخذ من قِبَلنا في الواقع، وهل هو مُملى علينا من قوة خفية وليس من جوهر إرادتنا الحرة ... كل هذه التساؤلات لا معنى لها، ونحن إذ نعمل ونفعل، ونختار، ونقرر، ويصدر منا الفعل الأخلاقي لا نعمل كل هذا ونحن نستبق أننا ننفذ إملاء، بل نعمله ونحن لا ندري عن الإملاء شيئا، وإن كان موجودا في حقيقته، أي إرادة الله تعالى ...

**أيضا في الجانب الأخلاقي، عند صدور قرار منا الأمر يعتمد على النية والقصد اللذان يحددان الطريقة التي نعمل بها العمل، وهذا ما يهمنا، ولا تهمنا المؤثرات التي تحكم عملنا .

**كما أعجبني قول دراز أننا السبب في العمل من حيث تكييف صفته، لا من حيث كوننا السبب المباشر له في ذاته جوهرا وصفة .

قال دراز : (وهكذا نفهم أن القرآن قد التزم أن يعلن مسؤوليتنا أمام الله، في نفس الآيات التي يبدو فيها أنه يلحق الإرادة الإنسانية بالإرادة الإلهية بصورة كاملة . قال تعالى: " وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ" –النحل:93-)

وبهذا يبقى مبدأ المسؤولية سليما

-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+

الجانب الاجتماعي للمسؤولية :

الإسلام اهتم بالوجه الاجتماعي للمسؤولية، فلم تكن شروط المسؤولية أمام الله تعالى من حرية وإرادة وشخصية ووعي بالقانون نفسها أمام المجتمع، بل هي مدنية وجزائيّة، والجزائية منها محددة للبالغين الأسوياء بقصد ونيّة

يقارن دراز كعادته مع القوانين الغربية التي سادت، فنعرف معه العجب العُجاب !! وذلك بعرضه لبعض محتوى دراسة اجتماعية عن المسؤولية لبول فوكونيه Paul Fauconnet عبر الحِقب في كثير من الدول التي كانت مجال دراسته،  أوروبية وغيرها، وكان من بينها بلاد فارس و الجزيرة العربية، إلا أن ثمة حلقة مفقودة لا تعرضها دراسته، وذلك ما يعرضه دراز، ويستغربه ويستهجنه أيّما استهجان ... سنعرف ...  emo (30):

** كانت أوروبا إلى عصور قريبة من عصرنا تعدّ الأطفال والمعتوهين والحيوانات والأشياء مسؤولة عقابيا.

** في التوراة أنّ الثور القاتل يُرجم ولا يؤكل لحمه.
** يقول أفلاطون: "لو أن حيوانا يقتل إنسانا فإنه يُقتل ويُرمى خارج الحدود ولو أن شيئا من الجماد يقتل إنسانا فإنه يُرمى أيضا خارج الحدود." !!!!

** وفي أول شريعة مكتوبة لدى الرومان، وهي ما يسمى بقانون الألواح الإثني عشر، عقوبة الطفل مخفّفة ولكنها ليست باطلة.

** في القرن الثامن عشر للميلاد أعدِم طفل في إنجلترا.
** في فرنسا تصدر العقوبة ضد المجنون، ويُحكم فيها بصفة عادية ثم يُنظَر فيها.

** من يُبتَر له عضو إثر جناية غير متعمدة يجري له القصاص إذا لم يقبل الدية.
** القاتل بالسهو في الصين يعاقَب بالجلد مئة مرة، وبالنفي وكذلك في التوراة يُحكم عليه بالنفي، ولصاحب الدم أن يقتص منه إذا غادر منفاه قبل الموعد المحدد له.

** في القانون الكنسي فُرضت كفارات على خطايا لا إرادية.
** في إنجلترا في القرن التاسع عشر لم يكن يفلت من العقاب القاتل غير المتعمد.

يتساءل دراز بعدها مستغربا سرّ اختيار أماكن بعينها، منها حتى فارس دون أدنى ذكر لجزيرة العرب وما كان فيها، والهند دون جزيرة العرب ...!وهي حِقب كلها كان القرآن قد نزل قبلها.. من القرن السابع للميلاد حتى يومنا ومن الصين إلى مراكش، ومر بمحاذاة مجتمعات إسلامية كثيرة دون أن يقف عندها !!.

وينتهي "فوكونيه" في دراسته إلى القول بأنه يكفي العمل المادي الخاطئ وحده في خلق مسؤولية المتهم الذي يتحملها، حتى لو كان ناشئا عن إهمال، أو كان ذا صبغة عرضية عن طريق الصدفة المحضة .

وهي نتائج استقراء غير كامل ... بينما مؤسس الإسلام منذ أربعة عشر قرنا قد جاء بإعفاء غير السوي وغير البالغ عن المسؤولية الجزائية، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم : "رُفِع القلمُ عن ثلاثةٍ : عن النَّائمِ حتَّى يستيقظَ ، وعن الصَّبيِّ حتَّى يشِبَّ وعن المعتوهِ حتَّى يعقِلَ" -أخرجه البخاري-
وقال أيضا صلى الله عليه وسلم : "العجماءُ جُرْحُها جُبارٌ ، والبئرُ جُبارٌ ، والمعدنُ جُبارٌ " -صحيح البخاري- وهو ما معناه أنّ ما تُحدِثُه البهيمةُ مِن تلَفٍ أو ضرَرٍ فهو هَدَرٌ لا ضمانَ فيه، وإذا وقَع إنسانٌ في بئرِ ماءٍ، أو منجَمِ ذهبٍ، فماتَ، فلا ضمانَ فيه.

وبالنظر إلى ما وصل إليه فوكونيه، فإن نتيجته تنهار أمام الشرع القرآني، إذ أنه يقرّ لغير المتعمد المسؤولية والجزاء، بينما يأمر القرآن بالدية والكفارة في حالة القتل الخطأ ليحمي القاتل الذي لا إرادة له من أي عقوبة بدنية .

ولاحقا بإذن الله نتعرف إلى أهم الفوارق بين المسؤولية الأخلاقية والمسؤولية العقابية رغم تشابههما الكبير .

« آخر تحرير: 2018-03-10, 10:20:24 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
إذن فقد عرفنا أنه إلى جانب المسؤولية الأخلاقية توجد المسؤولية الاجتماعية بشقَّيْها الجزائي(العقابي) والمدني .

** في المسؤولية الاجتماعية العقابية القاضي حتى وإن كان رسولا فإنه لا يستطيع الولوج إلى حقيقة الضمير ومعرفة حقيقة النية. يقول صلى الله عليه وسلم : "إنما أنا بشرٌ ، وإنكم تختصمون إليَّ ، ولعلَّ بعضَكم أن يكون ألحنَ بحُجَّتِه من بعضٍ ، فأقضي له على نحوِ ما أسمعُ ، فمن قضيتُ له بحقِّ أخيه شيئًا فلا يأخذُه ، فإنما أقطعُ له قطعةً من النارِ" -صحيح البخاري-

** بالنسبة للأخلاق يكفي الندم، وتكفي التوبة، فهل يكفيان للخطأ المجتمعي ؟؟ للفرار من عقاب القانون ؟؟

** في القانون القرآني مثلا، حدّ الحِرابة يُستثنى منه التائبون : "إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ۚ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ(33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ ۖ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(34)" -المائدة-

تظلّ فاعلية التوبة في الإطار الديني، أي فيما بين العبد وربه، دون أن تتجاوزها إلى الإطار الاجتماعي

** الزنا مثلا، رغم توبة صاحبه وعِظم تلك التوبة ومدى تقدير الإسلام لها، وتقدير رسول الله صلى الله عليه وسلم لها، إلا أن الحدّ أقيم على التائبين، ولم تعفِهم التوبة منه...

والنتيجة أن :

التوبة تنفع صاحبها، ولكنها لن تكون ذات فائدة ملموسة بالنسبة للمعتَدَى عليهم، فإقامة الحدّ من جهة تضمن على الأقل حقا للمعتَدى عليهم، وتضمن عدم إعادة المجرم لجريمته، كما تضمن الحد من انتشار عدوى الجريمة مستقبلا، فالعقوبة الاجتماعية حتى مع التوبة ذات ضرورة مزدوجة في الماضي وفي المستقبل، إذ تعطي حقا لمن ارتُكبت ضدهم، كما تحدّ من انتشار العدوى في المجتمع .

المسؤولية المدنية :

** المسؤولية الأخلاقية والمسؤولية الاجتماعية العقابية تشتركان في افتراضهما وجود النية المضادة للقانون، بينما المسؤولية المدنية يكفيها وجود الإرادة وحدها ...

نأخذ مثالا القتل الخطأ في الإسلام :

تحرير رقبة مؤمنة، وديّة تُسلم إلى أهل القتيل ... فأما تحرير الرقبة فهو عملية إدخال مؤمن في الحياة الأخلاقية مكان المقتول ... وأما الديّة فهي عملية مشاركة اجتماعية لإنقاذ مخطئ أصبح على كاهله ما يجعله في حالة بؤس يقتضي تعاون عُصبته الاجتماعية معه لانتشاله منه، ويتمثل ذلك في اشتراك الجماعة في دفع الدية ...

إذن : العمل الخاطئ غير المتعمّد طبيعته تضعه وسطا بين حالتين متطرّفتَيْن، بين العمل المتعمد والخطأ العرضي الذي يكون من محض الصدفة ...
بمعنى أن النية السيئة منعدمة في العمل الخاطئ غير المتعمد، مما يقتضي إعفاءه من العقوبة، ولكن من جهة أخرى يتميز عن حادث الصدفة حيث لا مجال غلا لمؤاخذة الطبيعة، فقد يكون مثلا عن إهمال، عن تسرع، عن عدم احتياط ... فيُفرض الإصلاح على جماعة يشترك معها ذلك الفرد المخطئ في العادة... ومن مثل هذا نعرف تخصيص الإسلام لباب من نفقات الدولة لفأداء الديون عن أصحابها، وذلك في باب الزكاة، حيث يقول سبحانه : "والغارمين ".
خاتمة فصل المسؤولية :

إذن فخلاصة، المسؤولية في القانون القرآني :

1- مسؤولية فردية بأتم معنى الكلمة، لا تستند إلى اشتراك من الموروث، ولا إلى جماعة ...

2- ترتبط ارتباطا وظيفيا بالشخصية: يطيقها الفرد البالغ العاقل الواعي بتكاليفها، يتمثلها أمام عينه لحظة العمل.

3- تؤدّى بإرادة وبحرية، بحيث أن الإرادة هنا حرة ولا تجبرها أي قوة من الطبيعة على الفعل. حتى عند الخضوع لإكراه خارجي فإن الفعل يكون بحرية وهو يوازن بين الأدلة والبواعث المتناقضة ثم يختار ما يراه أكثر تناسبا. أساء بع قراره أو أحسن.

4- تبقى نية فعل الشر الشرط الأساسي للعقاب .
« آخر تحرير: 2018-03-15, 13:42:44 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب