نظرت من حولي فإذا الأيام تنسلخ سراعا ...تخرج تباعا ، يأخذ بعضها بعضا ....يجر بعضها بعضا ....
نظرت من حولي فإذا الذي حل ضيفا منذ أيام يلوّح من بعيد بيد كريمة مودعا ....
نظرت من حولي فإذا الأيام الباقية تقسم أنها أيضا ذاهبة ...وأنها وإن طالت وإن قصرت لا بد أن تكمل العدة مع التي ذهبت ....ولا بد أن تلحق بها لتزيد تلك اليد الكريمة بعدا عن الأنظار ، وهي تلوّح مودعة ....
فإذا هذه الأخيرة الباقية القليلة حزينة ، حزينة ....حزينة لحزن المفارق على مضض ...حزينة مع حزن المفارق ....تبدو شاحبة الوجه ، منتقعة لا تكاد تتفتح الأسارير فرحا بوزنها عند الباري المتعال حتى تعود لتحزن على انسلاخها من بين الأيادي وانسحابها انسحابا ، تمني وتعزّي بعودة قافلتها بين القوافل المقبلة ....
يودعها المفارق على مضض بدمع الذي تتركه اليد الحانية وتولّي عنه وترحل
يودعها المفارق على مضض بدمع الذي تسلب من روحه العطشى فيوضات الزُّلال العذب الفرات ....
يودعها المفارق على مضض بدمع المستحي المقرّ بخيرها على مقصر جّحود مثله ....
يودعها المفارق على مضض .....على مضض ...على مضض
يودعها بدمع الذي لا يملك أن يضرب لها موعدا كما تملك هي أن تضرب ....
يودعها بدمع الذي لا يعرف إن كان سيلقاها من جديد أم أنّ لحظة فراقه الدنيا ستسبق لحظة عودتها ....
تلك الأيام الغوالي ....إنها تلوّح من بعيد مودعة .... إنها تفارق ....إنها تولي عنا لتتركنا لأيام أخَر ..... لأيام أخَر هي عدد من عدد العمر .....تلك الأيام تقول :
أيها المسافر يوما بلا كرّة ....إني مسافرة وعائدة .... أيها الراحل يوما بلا عودة إني راحلة ولكنّي حالّة يوما من جديد ...
تركتك لأيامك ....تركتك للياليك .... تركتك وهي ، فإما ذكرت عطائي لك فأقبلت على أيامك كريما تذكر عطائي وتخشى ذهابه عنك ....وإما أقبلت عليها ونسيت عطائي تخشى ذهابها عنك ....
أيها الصاحب الذي كنت له صاحبة قد نزعت ما كان عالقا بروحك من أقذاء ....قد غسلت بدمعك ما علق بها من شَوَب .... قد أبقيتك خلفي ناصعا ، ساطعا وكأنك الوليد الجديد .... فإما أبقيت على النور فيك ، وإما أطفأته بنفخ صراع الأيام تنسى ذكر الذي يذكرك بي وبرحمات غيري ، وتذكر الأيام والدنيا ذكر من يلهج القلب واللسان بأبجديتها وحروفها ويعبد شمسها المشرقة على كلماتها ينتظر شمس غدها المشرق على كلماتها .....
وداعا أيها المرافق المفارق ....وداعا أيها المفارق المرافق ...وداعا أيها المسافر يوما ....وداعا أيها الراحل يوما بلا عودة ..... فإني راحلة عنك إلى بعيد ...عائدة قد لا تجدك بين المرافقين ....
وداعا ولتحرص على ذكراي العطرة نبضات يخفق بها جنانك .... وداعا ولتحرص على نفحاتي حرص الغريق على قشة ترفعه إلى علُ إن هو بها استمسك.....