هو كائن حي متحرك . ونحن نراه في ظل هذه الوقائع يعمل ويتحرك في وسط الجماعة المسلمة ; ويواجه حالات واقعة فيدفع هذه ويقر هذه ; ويدفع الجماعة المسلمة ويوجهها . فهو في عمل دائب , وفي حركة دائبة . . إنه في ميدان المعركة وفي ميدان الحياة . . وهو العنصرالدافع المحرك الموجه في الميدان !
ونحن أحوج ما نكون إلى الإحساس بالقرآن على هذا النحو ; وإلى رؤيته كائنا حيا متحركا دافعا . فقد بعد العهد بيننا وبين الحركة الإسلامية والحياة الإسلامية والواقع الإسلامي ; وانفصل القرآن في حسنا عن واقعه التاريخي الحي ; ولم يعد يمثل في حسنا تلك الحياة التي وقعت يوما ما على الأرض , في تاريخ الجماعة المسلمة ; ولم نعد نذكر أنه كان في أثناء تلك المعركة المستمرة هو "الأمر اليومي" للمسلم المجند ; وهو التوجيه الذي يتلقاه للعمل والتنفيذ . . مات القرآن في حسنا . . أو نام . . ولم تعد له تلك الصورة الحقيقية التي كانت له عند نزوله في حس المسلمين . ودرجنا على أن نتلقاه إما ترتيلا منغما نطرب له , أو نتأثر التأثر الوجداني الغامض السارب ! وإما أن نقرأه أورادا أقصى ما تصنع في حس المؤمنين الصادقين منا أن تنشىء في القلب حالة من الوجد أو الراحة أو الطمأنينة المبهمة المجملة . . والقرآن ينشىء هذا كله . ولكن المطلوب - إلى جانب هذا كله - أن ينشىء في المسلم وعيا وحياة . نعم المطلوب أن ينشىء حالة وعي يتحرك معها القرآن حركة الحياة التي جاء لينشئها . المطلوب أن يراه المسلم في ميدان المعركة التي خاضها , والتي لا يزال مستعدا لأن يخوضها في حياة الأمة المسلمة . المطلوب أن يتوجه إليه المسلم ليسمع منه ماذا ينبغي أن يعمل - كما كان المسلم الأول يفعل - وليدرك حقيقة التوجيهات القرآنية فيما يحيط به اليوم من أحداث ومشكلات وملابسات شتى في الحياة ; وليرى تاريخ الجماعة المسلمة ممثلا في هذا القرآن , متحركا في كلماته وتوجيهاته ; فيحس حينئذ أن هذا التاريخ ليس غريبا عنه . فهو تاريخه . وواقعه اليوم هو امتداد لهذا التاريخ . وما يصادفه اليوم من أحداث هو ثمرة لما صادف أسلافه , مما كان القرآن يوجههم إلى التصرف فيه تصرفا معينا . ومن ثم يحس أن هذا القرآن قرآنه هو كذلك . قرآنه الذي يستثيره فيما يعرض له من أحداث وملابسات ; وأنه هو دستور تصوره وتفكيره وحياته وتحركاته الآن وبعد الآن بلا انقطاع
سيد قطب -الظلال-