-4-
يذكر لنا التاريخ أن الصليبيين قتلوا أكثر من ٧٠ ألف مسلم عند احتلالهم لبيت المقدس، ثم قاموا بتحويل المسجد إلى حظيرة خنازير.
وعندما اجتاح التتار بلاد المسلمين حرقوا مدنا بأكملها وقتلوا من المسلمين ما قدر في بعض الكتب بأكثر من مليوني مسلم.
لكن الله سبحانه وتعالى قدر للأمة في كل مرة من كسر شوكة الصليبيين والتتار وغيرهم على مدار تاريخ أمة الإسلام.
فما الذي اختلف هذه المرة في زماننا؟ ولماذا لا تستطيع الأمة أن تتابع النهوض بنفس الطريقة التي نهضت بها من قبل على يد صلاح الدين وقطز وغيرهما من المجاهدين؟
أحسب أن هناك ثلاث مستجدات محورية أخرجت الأمة عن مسار النهوض بعد الوقوع.
١- رضى المسلمين بالتحاكم لغير شرع الله في أمورهم وحياتهم، واختلال مفهوم العبودية لله سبحانه وتعالى في أذهان العموم. وبالتالي ضياع مفهوم شمولية الإسلام لشتى نواحي الحياة.
٢- الضعف اللغوي الذي عم الأمة بسبب الاقبال على تعلم اللغات الغربية، إما تحت سطوة المحتل وإما تحت شعار تحصيل العلوم ومد الجسور مع أجيال المسلمين في البلاد الغير ناطقة بالعربية.
٣- رضوخ الكثير من علماء الأمة للواقع (الدولة الحديثة) والتماشي معه من باب تيسير أمور الحياة للناس، ثم تأصيل هذا الواقع الجديد وهجران قضايا الأمة الكبرى كالحاكمية والمولاة وحصر الدين في شعائر تعبدية فردية.
وهكذا خرجت لنا حالة مشوهة من الفهم الضيق للدين لا تريد الصدام مع الواقع، وتحصر أدوات الدعوة حول نطاق الشعائر التعبدية التي لا تتصادم مع السلطة ولا الواقع العلماني لحياة الناس.
وبالتبعية انهار مفهوم الأمة في أذهان الناس، وخرجت لنا القبلية (القومية) المنتنة، ولم يعد يجد المسلمون غضاضة في التمتع بحياتهم وإخوانهم يذبحون أمام أعينهم على بعد دقائق أو ساعات منهم.
والأدهى محاولات شرعنة الواقع الجديد وظهور فئة جديدة ممن يدعون العلم الشرعي، لتجد للناس حلولا تريح ضمائرهم في قبول هذا الواقع العلماني السمج دون التصادم المباشر مع الشرع.
وكأننا أمام دين جديد تتحول فيه الصلاة مع الوقت إلى تمرينات رياضية، وشعائر الحج والعمرة إلى رحلات سياحية.
أما نصرة الدماء والأعراض والمقدسات، فهي منغصات تفسد حفلات الترفية ومؤتمرات الأعمال.
يقول سيد قطب رحمه الله:
"نحن اليوم في جاهلية كالجاهلية التي عاصرها الإسلام أو أظلم. كل ما حولنا جاهلية.. تصورات الناس وعقائدهم، عاداتهم وتقاليدهم، موارد ثقافتهم، فنونهم وآدابهم، شرائعهم وقوانينهم.
حتى الكثير مما نحسبه ثقافة إسلامية، ومراجع إسلامية، وفلسفة إسلامية، وتفكيرا إسلاميا.. هو كذلك من صنع هذه الجاهلية!!
لذلك لا تستقيم قيم الإسلام في نفوسنا، ولا يتضح في عقولنا، ولا ينشأ فينا جيل ضخم من الناس من ذلك الطراز الذي أنشأه الإسلام أول مرة.
فلا بد إذن – في منهج الحركة الإسلامية – أن نتجرد في فترة الحضانة والتكوين من كل مؤثرات الجاهلية التي نعيش فيها ونستمد منها.
لا بد أن نرجع ابتداء إلى النبع الخالص الذي استمد منه أولئك الرجال، النبع المضمون أنه لم يختلط ولم تشبه شائبة.
نرجع إليه نستمد منه تصورنا لحقيقة الوجود كله ولحقيقة الوجود الإنساني ولكافة الارتباطات بين هذين الوجودين وبين الوجود الكامل الحق، وجود الله سبحانه..
ومن ثم نستمد تصوراتنا للحياة، وقيمنا وأخلاقنا، ومناهجنا للحكم والسياسة والاقتصاد وكل مقومات الحياة.
ولا بد أن نرجع إليه – حين نرجع – بشعور التلقي للتنفيذ والعمل لا بشعور الدراسة والمتاع. نرجع إليه لنعرف ماذا يطلب منا أن نكون، لنكون.
وفي الطريق سنلتقي بالجمال الفني في القرآن وبالقصص وبمشاهد القيامة في القرآن.. وبالمنطق الوجداني في القرآن.. وبسائر ما يطلبه أصحاب الدراسة والمتاع.
ولكننا سنلتقي بهذا كله دون أن يكون هو هدفنا الأول. إن هدفنا الأول أن نعرف: ماذا يريد منا القرآن أن نعمل؟ ما هو التصور الكلي الذي يريد منا أن نتصور؟
كيف يريد القرآن أن يكون شعورنا بالله؟ كيف يريد أن تكون أخلاقنا وأوضاعنا ونظامنا الواقعي في الحياة؟"